بادرتني بالقول عندما سألتها عن الأحوال في لبنان: «نشعر بالعري، والأصعب أن عرينا عربي، تآمر الجميع علينا، ووقف العرب صامتين، يقدمون لنا الفتات وأطفالنا يموتون، خذوا أغذيتكم وأدويتكم وكل مساعداتكم، لا نريد كل هذا الفتات، نريد لبنان مرة أخرى».

شعرت بالخجل، والعجز معاً. الخجل من كلمات قوية وصفت الواقع بدقة لا يمكن تجاهلها، وبالعجز لأنني لا استطيع تغيير هذا الواقع، ولأنني أعرف أننا لا نملك فعلاً إلا الفتات لنقدمه للشعب اللبناني.

قد لا أفهم تماماً معنى تلك الكلمات التي عبرت بها صحافية لبنانية زميلة، ومثلي لا يفهمه تماماً من يعيش في أمن وسلام، محتضناً أبناءه، تحت سقف دافئ يحميه ويحميهم. ولكن بالتأكيد سيفهمه من يعانيه عن قرب، أولئك المهجرون الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا سند ولا معين، ظهورهم مكشوفة بعد أن تخلى عنهم سندهم، وأجسادهم تستهدفها الضربات، بعد أن فقدوا الدرع الواقي الذي يحميهم، وأصبحوا يواجهون الموت، بعد أن كانوا جزءاً جميلاً من الحياة. أصبحوا يشعرون بالعري، وكيف لا والكل يتفرج عليهم هذه الأيام، من دون أن يبدي أي حركة فعلية لتغيير واقع ما يعانونه.

تبدو تلك الكلمات، التي ذكرتها الصحافية الزميلة عن قهر وعجز وألم، ممزوجة بصور شتى، تشغل جميع الحواس، ممزوجة برائحة الجثث المتحللة تحت انقاض المباني، ممزوجة بأصوات صرخات الأطفال والأمهات الثكلى، وممزوجة بمناظر البيوت المهدمة، ومشاهد الدمار.

شعرت بالخجل، فأمام هذه الصورة، بكل أبعادها المتناهية الألم، ماذا يمكن أن نقدم فعلاً غير الفتات؛ فكل ما سنقدمه في النهاية سيكون فتاتاً مهماً كبر حجمه وغلت قيمته.

شعرت بالخجل، كالملايين من العرب غيري، ونحن لا نملك أن نقدم للبنان غير العجز والقهر والغضب، وذلك الإحساس المرير بالألم، لا نملك أن نغير من واقع اللبنانين شيئاً، لا نملك إلا أن نذرف الدموع علها تغسل خطايانا، وتمنحنا شعوراً بالراحة والرضا في أننا قمنا بفعل شيء، أي شيء، حتى لو كان البكاء.

لا نملك إلا أن نقدم الفتات، وليس غيره، لأن كل ما سنقدمه لن يساوي شيئاً أمام الجثث المتساقطة كل يوم، أو أمام النساء اللاتي متن محتضنات أطفالهن، أو أمام الرعب الذي يخيم على ما تبقى من لبنان في هذه الأثناء.

لا نملك إلا أن نقدم الفتات، زميلتي الصحافية، لأننا عاجزون، ونعرف أنكم أكبر من أن تحتاجوا إلى هذا الفتات، ونعرف أن صمودكم يقابله عجزنا، وعزتكم تعطينا من دون أقل جهد منا عزة وفخراً. نعرف أننا لا نقدم شيئاً إلا الفتات، ولكنه كل ما يمكننا أن نقدمه لكم، فاقبلوه منا، اعتذاراً أو عربون محبة، أو منحة لرفع العتب، لا يهم، فنحن نعرف أن ما تقدمونه حالياً أجل وأكبر.

لا نملك إلا أن نقدم ذلك الفتات إلى بيروت، لأنه كل ما يمكننا أن نقدمه الآن، نقدمه ولسان حالنا يخاطب بيروت «ست الدنيا» ليقول لها على طريقة نزار قباني:

قومي من تحت الردم

كزهرة لوز في نيسان

قومي من حزنك قومي

إن الثورة تولد من رحم الأحزان