بعد مضي 26 يوماً على العدوان الأميركي - الصهيوني بدأت التحركات الإقليمية والعربية والدولية تشهد تنافساً على الحل السياسي المتوقع أن يصدر قريباً في صيغة قرار عن مجلس الأمن.
بيروت تستعد لاستقبال مجلس وزراء الخارجية العرب المتوقع أن يعقد اجتماعه الطارئ غداً في العاصمة اللبنانية تعبيراً عن تضامن الدول العربية مع لبنان. ويرجح في هذا الصدد أن يعلن وزراء الخارجية العرب تأييدهم لسلة الأفكار التي توافقت عليها الحكومة اللبنانية.
سلة الأفكار التي تتضمن سبع نقاط تخضع كما يبدو لنقاشات عنيفة بين أوروبا (فرنسا تحديداً) والولايات المتحدة. وحتى الآن لاتزال الخلافات قائمة بين الطرفين ويرجح أن يتشكل من تلك النقاشات الحادة مشروع قرار يتألف من نقاط ليست لبنانية بالكامل. فالولايات المتحدة ترفض أخذ كل تلك الأفكار وتحويلها إلى مشروع دولي. كذلك ترفض «إسرائيل» أن تنصاع بالكامل لكل ما تضمنته سلة الأفكار اللبنانية من نقاط ومطالب واقتراحات.
هذه الاختلافات أسفرت عن تأخير الدعوة إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن والطلب من الأطراف وقفاً سريعاً وفورياً لاطلاق النار. «إسرائيل» كما يبدو بحاجة إلى مزيد من الوقت لتحسين مواقعها في القشرة (الحدود) اللبنانية. ولذلك تماطل بالتوافق مع واشنطن على تأخير الدعوة إلى وقف إطلاق النار إلى فترة إضافية يعتقد أن تنتهي مدتها غداً الاثنين أو الاربعاء المقبل.
هناك صراع إذاً بين الدبلوماسية الأوروبية (الفرنسية) التي تدعم لبنان والدبلوماسية الأميركية التي تدعم «إسرائيل» في عدوانها. وهذا الصراع سيترجم نفسه في مشروع القرار والنقاط التي يريد كل طرف تمريرها. ويترافق الصراع الدبلوماسي مع استمرار المواجهة الميدانية على أرض الجنوب، وهي مواجهة لاتزال تدور عسكرياً تحت سقف «التوازن السلبي». فالعدوان الصهيوني لم يستطع أن يخترق الحدود وكل ما فعلته تل أبيب حتى الآن اقامة رؤوس جسور وموضعة قوات في عمق يتراوح بين نصف كيلومتر وثلاثة كيلومترات. وهذا الفشل الميداني دفع حكومة ايهود أولمرت إلى تعويضه بالهجمات الجوية وتحطيم البنى التحتية وقتل الناس وارتكاب المجازر وإرهاب المدنيين وحرق القرى. والهدف من كل هذه الافعال محاولة إغراق الدولة بالنازحين وتفريغ الجنوب من سكانه وارباك المقاومة وتعطيل إمكانات التفاهم الوطني وتصديع الجبهة الداخلية.
إنها معركة كبيرة وممتدة كما بدأت معالم الصورة تظهر على الأرض المهشمة والمشوهة والمحروقة. فالولايات المتحدة تنظر إلى المواجهة القائمة الآن في الجنوب من منظار عريض يربط الحلقة اللبنانية بالحلقتين الفلسطينية والسورية، ثم يربط الحلقة السورية بالإيرانية واستتباعاً يربط الحلقة الإيرانية الأخيرة (الرابعة) باللبنانية.
وبسبب هذا المنظور الأميركي الواسع لمساحة الصراع الدائر الآن في لبنان تتجه واشنطن نحو استثمار ما يحصل في الجنوب لتمرير خطة عمل دولية تقوم على سياسة تطويل المعركة أو على الأقل تعليق الحرب إلى فترة محددة.
سياسة «تعليق الحرب» خطيرة جداً. فهي لا تعني وقفها نهائياً ولا تعني وقف اطلاق النار وانما هي خطة تتجه نحو القبول بهدنة مؤقتة وابقاء الوضع على حاله من دون حل. ولهذا السبب تصر الإدارة الأميركية على مشروع قرار ينص على «وقف العمليات العسكرية». وهذا يعني بلغة القانون الدولي بقاء القوات في مكانها وعدم عودتها إلى المواضع التي كانت فيها قبل 12 يوليو/ تموز الماضي. والوقف أيضاً لا يمنع اطلاق النار في حال أراد أي طرف تغيير المواقع. كذلك يعني استمرار فرض الحصار البحري. وربما أيضاً يعني تجميد التسوية وتعطيل الحل الشامل في انتظار تجاوب الطرف اللبناني مع الشروط السياسية التي تنص عليها القرارات الدولية وخصوصاً 1559.
سياسة «تعليق الحرب» تعني لا سياسة وابقاء الوضع الراهن على حاله حتى تكتمل الشروط العامة للتسوية. وهذا الأمر سيؤدي إلى حصول كارثة لبنانية لأن «تعليق الحرب» سيعطل على الدولة (المقوضة والمشلولة) إمكانات إعادة الإعمار وعودة النازحين إلى ديارهم وتعويض الناس وضخ المال في عجلة الاقتصاد. و«تعليق الحرب» يعني أيضاً عودة الحرب في اللحظة التي ينهار فيها وقف النار لأي سبب كان وتحت أي ذريعة قد تخترعها «إسرائيل» لاستئناف عدوانها، عندما تستكمل استعداداتها وتستوعب تلك الأسلحة النوعية التي تلقتها من الولايات المتحدة في الاسابيع الماضية.
لا تقتصر المخاطر على نقطة واحدة هي وقف العمليات العسكرية (تعليق الحرب) وإنما تمتد إلى تلك الشروط السياسية للحل الشامل. فالقرار الذي تتداوله فرنسا مع الولايات المتحدة لا يتضمن الاخذ بالنقاط السبع التي توافقت عليها الحكومة اللبنانية. فهذه النقاط جزء من الحل وليست كله في اعتبار أن هناك اضافات أميركية - إسرائيلية على مشروع القرار. وهذا يعني تفخيخ الوضع اللبناني وجرجرة طوائفه ومناطقه إلى مشاحنات سياسية/ أهلية محكومة بتوتر إقليمي وضغوط اجتماعية وصحية وبيئية وغيرها من حالات يتوقع أن تظهر على السطح بعد التوافق على «تعليق الحرب».
هناك إذاً سلسلة من المشكلات المتوقع ظهورها في لحظة تدويل الصراع القائم في الجنوب وامتداداته الخلفية في الساحة اللبنانية. فالدولة العبرية استغلت الحرب لتقوض لبنان (دولة ومقاومة) وتدفعه نحو حافة الانهيار العام. وتل أبيب في هذه السياسة تلعب لعبة خطيرة تقوم على معادلة سلبية. فهي من جانبها ضمنت حدودها دولياً بتعليق الحرب، وفي الجانب الآخر دفعت لبنان إلى حال من عدم ا لاستقرار والفوضى الأمنية.
هذا الأمر لا يعني أن «إسرائيل» في وضع جيد. فهذه الدولة تلقت صفعة قوية هزت اركانها وزعزعت ثقة المستوطنين والمستعمرين بذاك الجيش الذي لا يقهر. إلا أن أزمة حكومة إيهود أولموت تختلف عن أزمة حكومة فؤاد السنيورة.
الحكومة الإسرائيلية تواجه الآن خلافات بين رئيسها ووزير دفاعها وبين وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش بسبب ضعف التعبئة وعدم وجود خطط لتوسيع جيوب الاحتلال. وهذا الأمر سينتهي سياسياً باستقالات واقالات وإعادة ترتيب الأوراق لتعزيز نظرية الأمن واستراتيجية الدفاع وتطوير تكتيكات التعامل مع حزب الله.
الحكومة اللبنانية تواجه أزمة مختلفة. فهي تتعرض لضغوط إقليمية تهدد تماسكها كذلك تلاقي صعوبات في جمع الأضداد في وحدة وطنية واضحة المعالم ومتشابهة في تصوراتها. وهذا الأمر يشكل نقطة توتر دائمة في بلد طائفي يعتمد سياسة التوافق. وفي حال تبنى مجلس الأمن التصور الأميركي وفرضه على مشروع القرار الدولي فمعنى ذلك أن صمود حزب الله في الجنوب سيرتد سلباً على الداخل اللبناني وستتحول الخلافات المزمنة والمتوارثة (الطائفية والمذهبية) إلى ادوات سياسية تزعزع صيغة الكيان التي تتعرض إلى خطر الانهيار وربما إلى إعادة النظر بجدواها.
مشكلة لبنان لم تبدأ بعد. فهي حتى الآن غير منظورة بسبب العدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي مضى عليه 26 يوماً. المشكلة ستبدأ بعد توقف إطلاق النار أو ما تسميه الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا تجميد العمليات العسكرية. والتجميد لا يعني أن الحرب انتهت بل «علقت» لمعرفة تداعياتها اللبنانية وصولاً إلى اختبار نتائجها الإقليمية ومدى استعداد سورية وإيران للتجاوب السياسي أو المواجهة العسكرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1430 - السبت 05 أغسطس 2006م الموافق 10 رجب 1427هـ