مضى 25 يوماً على العدوان الأميركي - الصهيوني ولايزال لبنان ساحة مفتوحة لكل الاحتمالات السياسية. ميدانياً، لم تنجح حكومة إيهود أولمرت في تحقيق اختراقات ذات قيمة تذكر في الجنوب. وقوات حزب الله لاتزال تتصدى كراً وفراً في مناطق «القشرة» الحدودية وتطلق الصواريخ على المستعمرات والمستوطنات.
«إسرائيل» من جانبها لاتزال حائرة ومترددة في اعلان وقف العمليات العدوانية في فترة تشتد الضغوط الدولية وتطالب بعقد اجتماع طارئ لدول مجلس الأمن وإصدار قرار يشتمل على حل سياسي يرضي كل الاطراف المعنية بالأزمة.
سورية من جانبها لاتزال على مواقفها السابقة فهي من جهة تدعم لبنان وترفض العدوان على المقاومة. ومن جهة أخرى أبدت استعدادها لتقديم المساعدة في ضبط الوضع في حال طلب منها ذلك.
حتى الآن، كما تبدو الأمور من الصورة المشوشة، لاتزال الولايات المتحدة مترددة في الاتصال بدمشق. وهي أرسلت في هذا الصدد أكثر من إشارة غامضة، فمرة تتهم سورية وإيران بالوقوف وراء الأزمة الحالية ومرة تطالب دمشق وطهران بالمساعدة على احتواء تداعيات الأزمة. وبين هذه التهمة وتلك المساعدة المطلوبة تبدو الأزمة مرشحة إلى مزيد من الانفتاح السلبي. أي أن الأزمة أخذت تمتد نيرانها لتشمل الكثير من البقاع في لبنان. أمس مثلاً طاول القصف الصهيوني مناطق في العمق وأدت الغارات إلى تدمير جسور في المدفون وحالات والمعاملتين، إضافة إلى مرافئ ومناطق حيوية في العاصمة ومنطقة الاوزاعي.
الجديد في هجمات أمس الجوية انها حطمت أو قطعت أوصال اقضية تربط بيروت بالشمال وطرابلس. وهذه المنطقة تعتبر بمثابة «مونتي كارلو» شرق المتوسط ومصنفة من الاقضية البعيدة عن دائرة العدوان الصهيوني الحالي. وضرب جسور هذه المنطقة الجميلة والحيوية والمشهورة في مراكزها السياحية والخدماتية تعتبر إشارة إضافية إلى نوعية العدوان واستهدافاته. فالعدوان يريد تقويض لبنان (دولة ومقاومة) وتحطيم كل مقوماته ومرتكزاته للضغط على صيغة الكيان السياسي (القلقة اصلاً) ودفع الجماعات الأهلية إلى الخروج على الصمت والمطالبة بوضع خاص يحميها من دائرة التجاذب الاقليمي الذي يتصارع على ساحة مكشوفة عربياً ودولياً.
الأزمة إذاً دخلت مرحلة خطيرة وبدأت ترتسم على الأرض نقاط توتر ربما تؤدي، في حال استمرارها وعدم توصل مجلس الأمن إلى مشروع قرار سياسي ينهي العدوان، إلى نمو انشطارات أهلية تزعزع الاستقرار الأمني وتنهي تلك التحالفات أو التفاهمات بين اطياف (طوائف) المجتمع اللبناني.
هناك الكثير من المؤشرات التي تنذر بانفجارات داخلية. وهذه الاحتمالات ليست فرضيات عامة بل يمكن رسم خطوطها من تلك الملامح الدولية/ الاقليمية التي تظهر احياناً في تعليقات وتصريحات وتحليلات.
لبنان إذاً على محك تجربة صعبة، وهذه التجربة المتوترة اصلاً تتعرض الآن لضغوط دولية واقليمية قد تؤدي إلى نوع من التفكك الميداني الموضوعي بين طوائفه ومناطقه. فالازمة دخلت كما يبدو في نفق طويل. والحل المطروح دولياً لوقف العدوان الأميركي- الصهيوني مرفوض اقليمياً في حال اشتمل مشروع القرار على نقاط تتضمن نشر قوات دولية (متعددة الجنسية) على الحدود وابعاد قوات حزب الله ونزع سلاحه.
هذه نصف مشكلة أو نصف حل للازمة. النصف الآخر من الموضوع هو ذاك الذي ألمح إليه وزير الخارجية السوري وليد المعلم حين أعرب عن مخاوفه من دخول تنظيم «القاعدة» على خط الصراع العربي - الإسرائيلي انطلاقاً من الساحة اللبنانية في حال وافق مجلس الأمن على استجلاب قوات دولية إلى الجنوب. وذهب في الاتجاه نفسه وزير الخارجية الاسباني في مؤتمر صحافي عقده في واشنطن.
هذه المخاوف السورية/ الاسبانية ليست نظرية. فقبل تصريح المعلم وبعده صدرت بيانات عن «القاعدة» تعلن عن ارسالها مجموعات إلى لبنان لقتال «إسرائيل» واعوانها. وهذا الأمر الجديد يعطي فكرة عن تلك الازمة المتدحرجة والنهايات غير السعيدة التي تنتظر اللبنانيين في المستقبل القريب في حال لم تتوافق الدول الكبرى على احتواء تداعيات كرة النار الملتهبة في الجنوب.
الأمر الجديد يتلخص الآن في «القاعدة». فهذا تنظيم مجهول الهوية والأهداف ولا يعرف أوله من آخره. وحتى الآن لا أحد يدري من يموله ويدربه ويسلحه ويسهل اموره ومروره. فهذا النوع من التنظيمات لا يعرف مكانه وعنوانه وهو دائما عرضة للاختراقات من شبكات دولية تستخدمه لغايات غير شريفة وأهداف غير نزيهة كما هو حال العراق الآن. كذلك فإن هذه الشبكات التي لا أحد يدري ماذا تريد يمكن أن توجه لقتل المدنيين وتفجير امكنة العبادة والاحياء بذريعة مطاردة عملاء «القوات الدولية» وغيرها من شعارات.
وهذا السلوك في اختيار الأهداف عشوائياً يثير فعلاً الفزع والمخاوف ويصبح «البلد الصغير» ساحة اختبار لمواجهات غير مفهومة ومعلومة... وربما تجرجر لبنان إلى حقل الغام لا يميز بين طائفة وأخرى.
المسألة خطرة جداً. وأخطر ما في الموضوع هو ظهور أكثر من مقاومة في لبنان. فالمقاومة الحالية (حزب الله) علنية ومشروعة وشرعية وشريفة وتملك نواة مقاتلة ومتدربة على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. والكل يعرف قيادة المقاومة ومكانها وعنوانها واهدافها، وهي واضحة في سياستها ومتعاونة احياناً وبحدود نسبية مع الدولة ومتفهمة لحاجات لبنان وتدرك حساسية تنوعه وتعدد طوائفه ومذاهبه. ولهذه الاسباب شكلت المقاومة (حزب الله) نقطة توازن أهلية وأسهمت في تعبيد جسر العلاقة بين الناس والدولة.
«القاعدة» على نقيض ذلك. فهذا التنظيم غامض الاهداف ومجهول الهوية ومتخصص في قتل المدنيين. وهناك من يقول انه غير موجود فعلاً، ولكنه يوجد بالقوة عند الحاجة إليه. فهو تنظيم مصنوع ومخترق ومتعدد الاسماء والألوان والأشكال ولا يميز في ضرباته العشوائية بين فلسطيني وسوري ولبناني و«إسرائيلي». ودائماً يختار هذا التنظيم (المجهول) الأهداف السهلة أي قتل المدنيين والابرياء لإثارة الفوضى والفتنة.
الآن لبنان يواجه احتمال قيام «مقاومة» جديدة. ومثل هذا النوع من «التنظيمات السرية» يستطيع تخريب كل الانجازات التي حققتها المقاومة العلنية والمشروعة والشريفة. كذلك يستطيع هذا النوع من المقاومة «المتعددة الجنسية» ان يمنع على الدولة اتخاذ أي قرار بالتنسيق أو التفاهم مع المقاومة المعروفة والواضحة العنوان والاهداف. وهذا في حال حصل يصبح لبنان أمام دولة معطلة وكيان سياسي مهزوز يواجه في الآن ازدواجية في التعامل مع المقاومة: واحدة مجهولة وأخرى معلومة.
مضى الآن على العدوان 25 يوماً ولاتزال موازين القوى تراوح مكانها وتتعارك تحت سقف «التوازن السلبي». فالدولة العبرية لم تخترق الأرض ميدانياً وترد على فشلها بمواصلة تحطيم كل مقومات الكيان اللبناني. ومجلس الأمن يستعد إلى إصدار قرار يعلن فيه وقف اطلاق النار (هدنة مؤقتة) للبحث في صيغة حل سياسي للأزمة. وفي حال لم يتوصل الفرقاء إلى تفاهم وطني (محلي) واقليمي ودولي على مشروع الحل فمعنى ذلك ان النار ستعود مجدداً. وفي حال تم التوافق الدولي على نشر قوات «متعددة الجنسية» في الجنوب من دون اتفاق اقليمي فمعنى ذلك ان تنظيم القاعدة (المتعدد الجنسية) سيباشر أعماله من الساحة اللبنانية ضد «إسرائيل» وأعوانها. ومفردة الاعوان مطاطة وهي تعني الكثير من الضحايا والابرياء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1429 - الجمعة 04 أغسطس 2006م الموافق 09 رجب 1427هـ