بغض النظر عن وجهة نظر كاتب السطور في ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 والتي جاءت بالزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري أطاح بالملك فاروق، فإن عبدالناصر استطاع أن يوحد القلوب المتلهفة للحرية والكرامة بأطروحاته الثورية ومواقفه تجاه العدو الصهيوني، ابتداء بالعدوان الثلاثي سنة 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل»، وذلك بعد ثلاثة أشهر من قرار عبدالناصر تأميم قناة السويس، ولم ينته بمصيبة النكسة في معركة سنة 1967 التي ما انقشع غبارها بعد 6 أيام إلا بهزيمة منكرة للجيوش العربية قبال الجيش الإسرائيلي.
جمال عبدالناصر مهما كان، إلا أنه محسوب على الطائفة السنية، وأما شاه إيران المعروف بموالاته للغرب فمحسوب على الطائفة الشيعية، غير أنه وفي تلك السنوات كما يحكي لنا الكبار، كانت المظاهرات تخرج من قلب العاصمة المنامة من مختلف الفئات وعلى رأسها المواطنون الشيعة تندد بالشاه (الشيعي) وتهتف بحياة ناصر (السني)، وكانت أجواء المنامة تصدح بتلك الشعارات من مثل «ناصر عالي... عالي والشاه تحت نعالي». وآثار وحدة الشارع في زمن جمال عبدالناصر وفترة زعامته مازالت حية نعيشها كل لحظة، ولكم أن تعرفوها من خلال انتشار بعض الأسماء التي لم يعتدها الشارع الشيعي سابقاً مثل اسم عبد الناصر، ويوجد الكثير ممن هم الآن على وشك الرحيل عن هذه الحياة، أسموا أبناءهم خالدا تيمنا بالنجل الأكبر لجمال عبدالناصر.
اليوم يعيد التاريخ نفسه، ليثبت الشارع العربي والإسلامي أن الموقف البطولي في زمن خنوع وذل النظام العربي، كفيل بإظهار المعدن الأصيل لهذا الشارع وإدراكه لأولويات معركته، لهذا خرجت الجماهير عن بكرة أبيها في كل مكان من البلاد الإسلامية والعربية تهتف بحياة السيدحسن نصرالله، متوجة إياه كأعظم زعيم في هذا الزمن العربي الرديء.لقد علت أصوات الأصالة لجماهير الأمة عالياً، فطمرت الأصوات النشاز، حتى لو كان صوت أكبر منصب ديني حكومي في أكبر بلد عربي، راح في سلوك ببغاوي يكرر بأن سماحة السيد حسن نصر الله رجل مصاب بجنون العظمة.
وبالأمس... الأوضاع الطائفية في العراق أغرت بريطانيا لغزو هذا البلد، فدخلت جيوشها ميناء الفاو في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1914، ولكنها تفاجأت ولم تتوقع أن يصدر كبار المراجع وعلى رأسهم المرجع الأعلى السيدكاظم اليزدي فتوى من داخل الحرم العلوي بالنجف، توجب على الشيعة القتال بجانب القوات العثمانية المحسوبة على الطائفة السنية ضد الغزو الإنجليزي، وتبعه على نفس المنوال الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي تولى المرجعية خلفاً لليزدي سنة 1919م.
واليوم يصدر كبار علماء السنة وفقهاؤهم بياناتهم وفتاواهم التي توجب دعم جهاد المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله (الشيعي) ضد الهجمة المتوحشة من قبل الصهاينة...
بالأمس كان اليزدي والشيرازي وغيرهما من مراجع الشيعة واليوم الشيخ القرضاوي ومحمد مهدي عاكف وغيرهما من علماء وفقهاء السنة والجماعة.
ولقد مرت عقود كثيرة، والبعض من الجهات ذات النفس التكفيري المعروفة بالسلفية الجهادية التي تتقن جز الرؤوس ونحر الرقاب وقتل الأبرياء عن طريق تفخيخ أجساد الانتحاريين وتفجير السيارات الملغومة في الأسواق وبين المدنيين، هذه الجهات المعروفة لكل ذي لب أقامت بناءها على أساس التمايز الطائفي وبث الفرقة وزرع شوك الحقد والضغينة بين طوائف المسلمين ومذاهبهم، حتى خيل لنا أن لا أمل في إطفاء نار الفرقة التي أشعلها هؤلاء، وأنفقت على توهيجها بعض الجهات، فغرسوا في قلوب الأتباع بان خطر تلك الطائفة من المسلمين أشد من الصهاينة، وكانت هناك ردات فعل من قبل الطرف الآخر، يلعن حتى المجاهدين الشرفاء المحسوبين على الطائفة الأخرى، وهكذا داوليك، حتى تعملقت الروح الطائفية والحقد المتبادل.
غير أن الحوادث الجارية أثبتت مدى هشاشة هذا البناء الطائفي، فهذا الشارع المسلم بسنيه وشيعيه، يخرج ليثبت للمرة المليون أنه موجود وأنه أصيل لا يمكن استهباله من قبل من خول نفسه للافتاء، وتكفلت هذه الحوادث بتمزيق الأقنعة المزيفة التي أجهد البعض أنفسهم ردحا من الزمن في تثبيتها، وفشل التكفيريون للمرة المليون في وأد أصالة الشارع الإسلامي وطمر وعيه ومعرفته لأولوياته أو حرفها.
بعض أقطاب التيار التكفيري لدينا، لم يستطع بلع غصته، وعجز عن كتم غيضه وهو يرى البناء الطائفي الكريه الذي أنفق فيه جل عمره وماله وهو يتهاوى فوق رأسه، فحسب أنه يحلم ولم يصدق أن هناك حقائق جديدة تتحرك في الشارع، فانبرى أحدهم ممن هو محسوب على هذا التيار مؤخرا، في مقالة متهافتة، أشعرت من قرأها وكأنه كسر بين أسنانه حبة من الفستق، فتفاجأ بنتانة ما بداخلها الذي تناثر في فمه، ليجبره على التقيؤ.
ولم يكن هذا المقال وغيره من الخطب المنبرية المنفلتة لنفس التيار وفتاواهم الظالمة سوى نار قنديل تم إشعالها والشمس في رابعة النهار، فهي صغيرة لا تكاد تبين.
أخيراً، لم تكن هذه الحوادث الأولى ولا الأخيرة في تاريخنا، بل سبقتها حوادث كثيرة على نفس الشاكلة، ولكن المشكلة عدم التفكير الجدي في استثمار هذه الحالة الرائعة من التلاحم الشعبي لكي تصب في صالح أمتنا ووحدتنا، إذ لا ينبغي الاكتفاء المؤقت بإزاحة الجسم التكفيري والتعصب المذهبي من مكانه الذي سرقه، فقد يرجع بعد خفوت وهج الحوادث، ولكن لنتعلم كيف يمكن توظيف هذه الحوادث وهذه المصائب لعلاقات تتسم بالديمومة والاستمرار، وتقوية وشائج المودة والمحبة بين الشعب الواحد، وتأصيل الفكر الإسلامي المتسامح في نظرته للخلاف بين مختلف المذاهب الإسلامية
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1428 - الخميس 03 أغسطس 2006م الموافق 08 رجب 1427هـ