اعتمدت الطبعة الثانية من التفكير الاستشراقي على الأولى التي تكونت من طريق الاحتكاك والحروب الدينية - التجارية بين نهاية القرن العاشر ونهاية القرن الخامس عشر. وتميزت الثانية بأنها بدأت تشق طريقها المستقل ببطء شديد عن الأولى وأخذت تنتقل من محاولة التعرف إلى مرحلة التنظير للسيطرة باسم التفوق الذي بدأت أوروبا بتحقيقه عالمياً.
تاريخياً ارتبطت الطبعة الثانية بمسألتين، الأولى التوسع الجغرافي الأوروبي في مناطق المسلمين والثانية عودة الصراع مرة أخرى على خطوط التجارة والمواصلات البرية والبحرية. أي أن الطبعة الجديدة تأسست أيضاً في سياق الصراع مع المسلمين. فالصراع السابق على خطوط البحر المتوسط ومحاولة السيطرة على خط الحرير (طريق الهند - الصين) انتهى إلى فشل الحروب الصليبية (الفرنجة) لكنه ساهم في تطوير خطوط الملاحة البحرية وتطور المعرفة الجغرافية في أوروبا وهو أمر دفع المدن الأوروبية - المتوسطية (البندقية، جنوى) الى البحث عن مواصلات بديلة وخطوط جديدة.
وبدأت منذ مطلع القرن الخامس عشر الاكتشافات الجغرافية المعاصرة التي قلبت موازين القوى الدولية آنذاك بتمويل من البرتغال وإسبانيا وبمساعدة بحارة من البندقية وجنوى ساهموا في وضع الخرائط للطرق الجديدة. وانتهى الأمر كما هو معروف إلى الدوران حول إفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح في العام 1488م والوصول إلى الهند مباشرة في العام 1497م. وفي الفترة نفسها نجح كولومبوس في اتمام رحلته الأولى إلى أميركا في العام 1492م (بعد سقوط غرناطة بشهور قليلة) والعودة منها وظن في البداية أنها الهند.
أسست الاكتشافات الجغرافية (التوسع خارج القارة) القاعدة المادية، إذا صح التعبير، للتقدم الأوروبي الداخلي (افكار، نظريات، انقسام الكنيسة القديمة ونشوء كنيسة حديثة عن طريق الحركة البروتستنتية). كذلك مهدت الطريق، من خلال تراكم الثروات، إلى نشوء الثورة الصناعية التي أسهمت في تطوير الزراعة والتجارة وتحديثهما فساعدت على نشوء شبكة علاقات داخلية انتهت إلى الدولة المعاصرة في إطار الوحدات القومية (السوق الداخلية المشتركة).
في سياق صعود أوروبا وتراجع العالم الإسلامي حصل الصدام التاريخي الثاني الذي بدوره حدد الأطر الحديثة للصورة القديمة عن الآخر المسلم، إذ بعد اكتشاف الطرق البحرية وفي عصر التوسع الأوروبي وجدت الكنيسة المسيحية نفسها وجهاً لوجه أمام الكثير من المسلمين وفي الكثير من البلدان. المسلمون استغربوا من جهتهم وصول الفرنجة إلى الهند من دون المرور بالعالم الإسلامي (الممرات البرية والبحرية القديمة). والأوروبيون دهشوا من جهتهم بوجود شعوب إسلامية وامبراطوريات في آسيا البعيدة. وهكذا تجدد الصراع على خلفية الصورة الذهنية القديمة وعلى قاعدة تفوق أوروبا، هذه المرة، على العالم الإسلامي عسكرياً واقتصادياً.
وفي خضم الصراع المتجدد اكتشفت أوروبا في مطلع القرن السادس عشر أنها بحاجة إلى تجديد معرفتها بالعالم الإسلامي والشعوب الإسلامية والدين الإسلامي فنشطت في هذه المرحلة بعثات الحجاج إلى الاراضي المقدسة في تزويد المعلومات وبدأ يتزايد اهتمام السلطات المحلية بدور الرحالة من أوروبا إلى الشرق كذلك تجددت أهمية القوافل التجارية في كشف معالم الطرقات ومجاهل المنطقة.
في هذه المرحلة ظهر ما يسمى بالحاج المستشرق والرحالة المستشرق والتاجر المستشرق. ومن هؤلاء تم التزود بالمعلومات واشباع حاجة المعرفة. وشكلت مواد الفئات المذكورة قوة الدفع الاساسية في الطبعة الثانية من التفكير الاستشراقي وهي مهدت لاحقاً لنشوء ظاهرة التبشير المسيحي (المبشر المستشرق) وصولاً إلى قادة الجيوش (الضابط المستشرق) وأخيراً رؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصليات في بلاد المسلمين (الدبلوماسي المستشرق). كل هؤلاء ساهموا تباعاً وعلى امتداد فترة زمنية امتدت من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر (عصر انفجار الثورة الصناعية) في تلوين الصورة عن الآخر المختلف.
اعتمدت الطبعة الثانية من التفكير الاستشراقي على أخبار النقل (حجاجاً، رحالة، تجاراً) ثم (مبشرين، ضباطاً، دبلوماسيين) واتصفت بتطوير الصورة المشوشة والمشوهة السابقة لكنها لم تستطع أن تكسر «المقدسات» التي طبعت العلاقات الدموية في الفترة الماضية. وزاوجت الطبعة الثانية بين الاحتكاك السلمي ومحاولة أوروبا السيطرة على مناطق المسلمين. وعرفت هذه الفترة ظاهرة بعثات التبشير التي بدأت في منتصف القرن السادس عشر (1540م) وتطورت الظاهرة في شرق آسيا ومناطق نفوذ الدولة المغولية المسلمة وخصوصاً في 1580م وصاعداً وهو أمر جر إلى معارك طاحنة وحروب مقدسة تداخل فيها مرة أخرى الديني مع التجاري.
لم يقتصر الضغط على المسلمين من جهة أوروبا الغربية بل اخذ الضغط يشتد من جهة أوروبا الشرقية بعد فشل حصار فيينا وصعود نفوذ القياصرة الروس في محيطهم الأوروبي من ناحية انتشار العثمانيين وأيضاً في محيطهم الآسيوي من ناحية انتشار عشرات الممالك المسلمة في آسيا الوسطى. إذ بعد سقوط القسطنطينية (اسطنبول) انفصلت الكنيسة الروسية (الارثوذكسية) عن الكنيسة اليونانية واستغلت موسكو ضعف القاعدة المتوسطية - الشرقية للكنيسة الارثوذكسية في أثينا فأخذت تبني قاعدة بديلة بقيادتها فاستقلت عنها في 1553م بعد مرور 100 سنة على سقوط القسطنطينية، وأخذت باسم كنيستها الجديدة تتقدم على جبهتي آسيا وأوروبا الشرقية في مواجهة المسلمين وخصوصاً العثمانيين. وهكذا نمت في روسيا مدرسة استشراقية موازية لمدارس الاستشراق في أوروبا الغربية. وعلى رغم أن هدف تلك المدرسة كان التعارف من خلال الاحتكاك فإنه تطور إلى التعارف من خلال الاستيلاء والغلبة. أي أن الاستشراق الروسي مثل الاستشراق الأوروبي تأسس على قاعدة الصراع الدموي والغلبة لاحقاً.
في هذا الإطار التاريخي تكونت الطبعة الثانية من الاستشراق واستمرت تخط وتراكم تصوراتها المشوشة إلى القرن الثامن عشر حين بدأت ملامح الطبعة الثالثة للتفكير الاستشراقي بالظهور. وهي غطت الفترة الممتدة من 1765 إلى 1870 وفيها تبلورت أرقى درجات النظريات العرقية والعنصرية عن الآخر المختلف/ المتخلف.
انطلقت الطبعة الثالثة في ظل الثورة الصناعية وانتشرت نظرياً معها ومع تطور المعارف والعلوم الحديثة. إذ في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر (1765م) بدأت الثورة الصناعية من بريطانيا (انجلترا) وانتشرت فيها وانتقلت منها إلى أوروبا عن طريق شمال - غرب القارة وامتدت إلى فرنسا ولاحقاً ألمانيا. وتطورت الثورة الصناعية ببطء من 1765 إلى 1820م ثم تحولت في العام 1830م إلى قوة اقتصادية مستقلة وقائدة لمختلف القطاعات المنتجة.
في هذه الفترة كانت المعركة الحضارية (الدينية - السياسية) قد حسمت نهائياً لمصلحة أوروبا ودخل العالم الإسلامي في مرحلة من الضياع السياسي والاقتصادي أدى بالتدريج إلى خسارة مكانته الدولية وتراجعه عن الكثير من مواقعه في أوروبا الشرقية وشرق آسيا وغرب إفريقيا وشرق افريقيا والهند ومداخل البحر الأحمر وبحر العرب ومنطقة الخليج وبدأت السلطات القديمة في شمال افريقيا (بلاد المغرب) بالتفكك.
في هذا الجو التاريخي المبعثر سياسياً للعالم الإسلامي شق الاستشراق طريقه في سياق الغلبة الأوروبية وتفوق موقع أوروبا على بلاد المسلمين. آنذاك شهدت الدولة الأوروبية سلسلة منازعات بين بعضها (فرنسا وبريطانيا خصوصاً) للسيطرة على افريقيا وآسيا كذلك شهدت منازعات لقيادة القارة في وقت كانت روسيا تتقدم في شرقها.
أيدت فرنسا حرب روسيا ضد السلطنة العثمانية فقامت بريطانيا بتأييد السلطنة في محاولة منها لوضع يدها على بعض مناطق نفوذ العثمانيين لتطويق النفوذ الفرنسي - الروسي. وشهدت تلك الفترة حالات صعود وهبوط في العلاقات الدولية فدخلت ألمانيا (بروسيا) على خط الصراع وحاولت ترتيب تحالف مع السلطنة لتطويق بريطانيا والتضييق عليها في أوروبا. وأسهمت تلك السياسات الدولية الأوروبية المتناقضة في نشوء مدارس استشراقية متعددة ومتنوعة المذاهب القومية الأمر الذي يؤكد خضوعها لمصالح دولها القومية. فنشأ الاستشراق الفرنسي إلى جانب الاستشراق البريطاني إلى الاستشراق الألماني إلى الاستشراق الإيطالي وأيضاً دخلت روسيا على الخط باستشراق خاص ومختلف عن المدارس في أوروبا الغربية.
وفي ظل توازنات الرعب هذه أقدمت بريطانيا على تأييد روسيا وفرنسا في حربهما ضد السلطنة العثمانية وهو موقف قلب مرة أخرى موازين القوى الدولية وحمل لاحقاً فرنسا وبريطانيا على الاتفاق على تقسيم السلطنة (مشروع فرنسي قديم) وهو أمر كانت بريطانيا ترفضه خوفاً من أن يصب في مصلحة روسيا. وأدى الاتفاق الفرنسي - البريطاني إلى عزل ألمانيا أوروبياً وطوقت حركتها خارج القارة فاندفعت للتفاهم مع اسطنبول لفك عزلتها الأوروبية. وأدى الاتفاق أيضاً إلى حصر النفوذ الروسي في شرق أوروبا ومنعه من الوصول إلى البحر المتوسط فاضطرت موسكو إلى تحويل نشاطها العسكري إلى آسيا الوسطى واقصى الشرق فانتهى توسعها لاحقاً إلى اصطدامها مع اليابان (الحرب الروسية - اليابانية 1904 - 1905).
هكذا ارتبطت حركة الاستشراق بحركة الاكتشافات الجغرافية ثم تطورت معها في القرن الثامن عشر (عصر الثورة الصناعية) وتشعبت إلى مدارس قومية تمثلت روحية مصالح الدولة القومية في القرن التاسع عشر وانشقت على نفسها إلى مذاهب فكرية وفلسفية ومعرفية تطبعت بالنظريات السائدة في زمانها وعكست تعقيد التحالفات الدولية وصراعات الدول الكبرى في أوروبا وخارجها.
حاول مؤسس الدراسات العربية العلمية يوهان جاكوب ريسكه (1716 - 1774م) تحرير اللغة العربية من بنيتها المقدسة كما يقول ونظر إلى التاريخ الإسلامي نظرة المؤرخ محاولاً ربطه بالتاريخ العالمي. وهذه الخطوة اعتبرت آنذاك خطوة مبكرة لتفكيك ذهنية التفكير الإسلامي من خلال قراءة حوادث التاريخ.
بعده تطور الاستشراق وتعدد وتنوع إلى مدارس ونظريات إلى أن دخل في طبعته الرابعة التي بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (1870 وصاعداً) وهي الفترة التي حكم فيها السلطان عبدالحميد الثاني إلى أن سقط بانقلاب عسكري في 1907 وأطيح به وعزل في 1908. وفي الطبعة الرابعة تكونت الشخصية الجديدة للاستشراق وتم تركيبها على مختلف العلوم وتجربة مختلف الحقول والمعارف على الشعوب الأخرى بذريعة دراسة خصائصها.
اعتمدت الطبعة الرابعة (القرن التاسع عشر وصاعداً) على الطبعة الثالثة (القرن الثامن عشر) وأخذت منها الكثير من المعلومات والمواد العشوائية أو المنظمة التي تم تجميعها خلال فترة التوسع الأوروبي وبسط النفوذ وفرض السيطرة. فالطبعة الرابعة تأثرت بالثالثة على رغم انها تجاوزتها. واستمرت الطبعة الرابعة من التفكير الاستشراقي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية فظهرت طبعة خامسة استمرت إلى حين صدور كتاب إدوارد سعيد في نهاية السبعينات.
ما هي المراحل التي مر بها الاستشراق في كل فترة وكيف وصل إلى ما وصل إليه وكيف بدأت أزمته وبداية نهايته؟
قبل أن يتحول الاستشراق إلى مدرسة في التفكير تشعب في فروعه وعلومه وتطور تاريخياً من درجة إلى أخرى إلى أن تشكل السُلم (درجات) الاستشراقي وبات على كل طالب علم في الشرق أن يرتقي ذاك السلم حتى يعطى إجازة التخرج من الجامعات الأوروبية ومعاهدها الاستشراقية.
لذلك يمكن تقسيم مصادر الفكر الاستشراقي تاريخياً إلى أربعة تدرجت في أربع محطات معرفية:
الأولى. بعثات الحجاج المسيحية إلى الأراضي المقدسة في فلسطين وكان طريقها البحري البندقية - يافا - القدس وبيت لحم ثم العودة إلى ديارها. وشكلت روايات العائدين من الحج المصادر الأولى لتركيب الصورة الذهنية عن المسلم فاختلط فيها الاسطوري بالواقعي والكذب بالحقيقة والخيال بالمشاهدات. فهي روايات منقولة ومنحولة تم تجميعها وتوارثها لتعزيز الرؤية العامة عن الآخر. واستمر خط سير بعثات الحج في السياق نفسه إلى القرن السادس عشر بعدها تطورت رحلات الحج فأخذت تتسع لتشمل زيارات إلى مدن الشرق (مصر، سورية، سيناء، اسطنبول واليونان) في القرن السابع عشر.
الثانية. الرحالة (بعثات علمية ورسمية وشخصية) وتشمل تقارير الرحالة عن إسلام الشرق إضافة إلى بداية الاهتمام بالكنائس الشرقية واختلافها عن الغربية، وحاولت التقارير اكتشاف المناطق المجهولة وتقديم تصور للأوروبي عن العالم الآخر. وكان معظم الرحالة الأوائل من النبلاء ورجال الدين (القيادات الروحية اللاهوتية). وتركز اهتمامهم بداية على اكتشاف الأماكن المقدسة وطرق الوصول إليها ووصف عادات وتقاليد شعوب المنطقة.
في هذه الفترة شهدت أوروبا تقدمها على العالم الإسلامي وأدى التقدم الذي أحرزته إلى محاولة فك عزلتها عن الآخر المختلف والخروج من محيطها القاري إلى المناطق الجغرافية التي بدأ اكتشافها وراء البحر وفي الشرق البعيد. ولعب الرحالة دور الاثارة ودغدغة الخيال ونسج الكلام الاسطوري عن مغامراتهم. وشكلت تقاريرهم ورواياتهم (أدب الرحلات) خطوة متقدمة عن الفترة الأولى إذ تم الاحتكاك المباشر عن طريق المعايشة لا عن طريق تسقط الأخبار والتقاطها من العائدين من بعثات الحج كما كان يحصل في السابق.
الثالثة. تراجع دور النبلاء ورجال الدين المسيحيين لحساب التجار والحرفيين والأطباء والعلماء والرسامين في القرن الثامن عشر. وبرز إلى جانب هذه الفئات دور قادة الجيوش في الشرق فنشأت ظاهرة الضابط - الباحث حين كان يرسل تقاريره إلى وزارة دولته (الخارجية والمستعمرات) ويزودها بالمعلومات عن احوال واوضاع الشعوب الأخرى الخاضعة للامبراطورية أو التي في طريقها إلى الخضوع (الأراضي الواقعة وراء البحار وفي الشرق). ومنذ القرن الثامن عشر بدأت تنتظم المعلومات عن أحوال ممالك المسلمين وأوضاع الجيش ونظامه وتنظيمه.
الرابعة. الوكلاء والقناصل والبعثات الدبلوماسية وهي مرحلة تحولت لاحقاً إلى سلطات انتداب (المندوبون الساميون) حين بدأت تتسع المهمات لتصل إلى مراقبة الباب العالي في اسطنبول. وبات الدبلوماسي يرافقه العالم الجغرافي والرسام وعالم اللغة والفقيه المسيحي (اللاهوتي) لتسجيل الملاحظات والانطباعات وارسالها إلى العواصم الأوروبية. وكان القناصل، أو قادة الجيوش لاحقاً، عادة هم خبراء وعلماء ومبشرون في الآن نفسه تم اختيارهم وتحميلهم مسئولية إدارية للتعرف على الشعوب الأخرى الواقعة في نطاق مسئولياتهم.
هكذا تحول الاستشراق إلى بنية ذهنية جاهزة بدأت تشق طريقها بعد انقضاء الحروب الصليبية في نهاية القرن الثالث عشر ثم تبلورت على يد بعثات الحج والرحلات إلى أن أخذ منهج الاستشراق يتطور إلى علم «مستقل» وفي الآن نفسه إلى مهمة سياسية.
وتحولت «جاذبية» الشرق (الإسلام) إلى حقل تجارب ومعارف تتنافس عليه القوى الأوروبية. ومن هذا العلم الاستشراقي دخلت التصورات عن الشرق في الآداب الأوروبية وأثرت فيها واثرتها بالمعرفة والخيال (غوته، روكارت، هيغو) وتركت موضوعاتها تأثيرها على مونتسكيو، ريبمو كارل ماي، وج. جويس. واشتمل أدب الرحلات على معلومات وافية عن الحياة السياسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية في تلك العصور والفترات.
ومن مجموع جهود هؤلاء اكتملت عناصر الصورة وتم تركيب العمارة الاستشراقية. لقد بدأ الاستشراق كتابياً في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر وتطور تاريخياً إلى القرن الثامن عشر حين تم تأسيسه على قواعد مناهج المعرفة والنظريات الفلسفية السائدة آنذاك، وكانت في معظمها تميل إلى التفكير العنصري والخصائص العرقية والثقافية الثابتة للشعوب التي لا تتطور بسبب من تلك الخصائص. وشكلت تلك الدراسات في مرحلة التوسع العسكري العنيف لأوروبا الذي اعقب توسعها الجغرافي - التجاري ذرائع نظرية لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان وحضارات الشعوب وثقافاتها.
استمرت هذه النزعة الاستعلائية التفوقية تشكل الأساس النظري لعلم الاستشراق إلى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بعدها عاد الاستشراق للنمو والتطور وفق قوالب نظرية جديدة من دون أن يكسر ثوابت المرحلة السابقة التي طبعت مناهج الاستشراق في القرن الثامن عشر.
ومن نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (نحو 80 - 90 سنة) برزت أسماء كبيرة في مدارس الاستشراق في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتفرعت سلسلة اختصاصات في الدين الإسلامي والتاريخ والفقه والحديث وآداب الشعوب الإسلامية. وبدأ الاستشراق يتحول إلى نوع من الدراسات الإسلامية التي تبحث في اللغة والعمران والفنون والكتابة والرسوم والمنمنمات.
ونشأت على ضفاف جهود المستشرقين الجمعيات الاستشراقية والآسيوية والإفريقية والإسلامية وبدأ تنظيم المؤتمرات العالمية للمستشرقين (1873م). وازداد الاهتمام بالدراسات الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية فتحول إلى حقل أكاديمي لا يقتصر على المعاهد والجامعات الأوروبية بل أمتد إلى المعاهد السوفياتية والأميركية والكندية وأخيراً اليابانية وصولاً إلى تأسيس «اتحاد المستعربين ودراسي الإسلاميات» في أوروبا في العام 1962.
إلى جانب هذه الجهود الخاصة والعامة برزت «دائرة المعارف الإسلامية» بين 1913 و1936 وظهرت القواميس الإسلامية بين 1885 و1972 إلى عشرات المجلات والدوريات المختصة التي صدرت في الفترة الواقعة بين 1809 و1970. وحالياً تصدر الجامعات والمجاميع العلمية المهتمة بآسيا وإفريقيا عدداً من المجلات المتخصصة بالدراسات الإسلامية. وبدأت جامعة كامبريدج باصدار «الفهرس السنوي» في العام 1958 وغطى المجلد الأول كل المقالات الصادرة في المجلات المتفرقة في الحقبة الممتدة بين 1906 و1955 ولايزال يصدر الفهرس سنوياً نظراً لتشعب الدراسات الإسلامية واتساعها وتعدد مدارسها ومناهجها.
لم يتطور الجانب المعرفي في مدارس الاستشراق ومناهجه بمعزل عن السياسة والصراعات الدولية والتنافس مع المسلمين للسيطرة على الممرات البحرية وطرق المواصلات والاتصالات البرية والبحرية. ولم يكن الاستشراق بعيداً عن مناخ الاصطدام الحضاري - الديني وترتيب صورة سلبية عن المسلم المختلف التي اشبعت زمنياً بالكراهية والعداء.
كذلك لم يتطور الاستشراق بمعزل عن الصدام المباشر بين المبشرين والمسلمين في أكثر من مكان من العالم الإسلامي مثل الصدامات في الهند مع البرتغاليين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم الانجليز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم الصدامات في الجزائر وبلدان المغرب مع فرنسا، وغرب إفريقيا وليبيا مع إيطاليا في القرنين التاسع عشر والعشرين حين تحول الجنرالات إلى كرادلة والكرادلة إلى جنرالات، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى نشوء معارك دموية. بعدها تطورت إلى حركات تحرير إسلامية ووطنية في الكثير من مناطق المسلمين سواء في الهند أو إفريقيا أو المغرب أو البلقان أو في مناطق المشرق العربي والسودان. فقد ارتبط الاستشراق آنذاك بالتبشير والتحق التبشير بالاستعمار، وكان حيث يصل العسكري يصل المبشر وحيث يكون المبشر يكون المستشرق.
انتج الاحتكاك الصدامي المذكور تصورات سلبية متبادلة كان فيها المستشرق هو سيد الموقف نظراً إلى قوة التأثير الذي احدثه الغرب (دوله الاستعمارية خصوصاً) لحظة الاقتحام العسكري والسياسي والاختراق التجاري والاقتصادي. ولم ينته الصدام والاصطدام في لحظته بل انتج منظومته في المعرفة والتاريخ وقراءة النصوص، أي انه انتج ثقافته ورؤيته للآخر. وتحولت الثقافة المسيطرة إلى سلطة نصوصية (سلطة المعرفة) يتم توارثها في مدارس الغرب وجامعاته من دون تدقيق في المنحى الاطلاقي لشطحات بعض المستشرقين. وعدم الدقة في التحليل والفهم أدى إلى وقوع عشرات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة في اخطاء علمية وتاريخية نتيجة اعتماد هؤلاء على نصوص المستشرقين لفهم «الشرق» والعالم الإسلامي. وأخطر ما في المسألة ان هؤلاء العلماء والفلاسفة اقدموا على تحويل قراءات واستنتاجات المستشرقين الناقصة والمشوهة والمشوشة إلى قوانين تقوم على خلاصات تاريخية نهائية في دراسة آليات العلاقات والمنظومات في جغرافية العالم الإسلامي وتاريخه. وتفاقمت المشكلة عندما تطورت علوم الاستشراق لاحقاً وعدلت وبدلت وغيرت النظرة السابقة بينما استمرت نصوص العلماء والفلاسفة التي اعتمدت على الاستشراق القديم، قبل تطوره وتقدمه، تدرَّس في المعاهد والجامعات كحقائق نهائية في قراءة العالم الإسلامي من ناحيتيه الجغرافية - الثقافية والتاريخية - الفكرية.
في السياق المذكور ينتقد الباحث الإسلامي رضوان السيد كتابات ماكس فيبر مثلاً عن الإسلام والعالم الإسلامي الذي نسب عدم تطور البلدان المسلمة إلى الرأسمالية (على رغم أنها عرفت ظواهر رأسمالية قبل أوروبا بمئات السنين)، إلى «الانماط الاجتماعية السياسية» و«انظمة الحكم» معتمداً على أعمال بعض المستشرقين القدامى أمثال ميللر وسنوك وهورغرونييه ثم كارل هاينريش بيكر. ويرى السيد أن «دراسات الاستشراق فيما يتصل بعالم الإسلام، وسائر العوالم الحضارية الشرقية كانت لاتزال تعاني من نقص المصادر والأفكار المسبقة الثابتة (...) وقد انقضى زمن تلك الأفكار في عالم الاستشراق بالمعرفة الأوسع التي تطورت بعد الحرب (العالمية) الثانية، وبالمقاربات المنهجية المتجددة لمسائل حضارة عالم الإسلام». (منبر الحوار، العددان 32 و33 ربيع وصيف 1994).
المشكلة ان قراءات فيبر عن الإسلام والحضارات الأخرى تحولت إلى قوانين «سوسيولوجية» ثابتة وجامدة لا تتحرك ولا تتغير على رغم أنها اعتمدت على أعمال ناقصة ومشوشة قام بها بعض المستشرقين في زمنه وقبله بعشرات السنين. وتعدليها بات من المستحيلات بسبب غياب كاتبها. وما حصل في منهج فيبر حصل أيضاً في معظم المناهج التي صيغت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إذ إنها كلها اعتمدت على نصوص «تعاني من نقص المصادر والأفكار المسبقة الثابتة» كتبها المستشرقون القدامى، وهذا ما وقع فيه هيغل حين درس الإسلام ونظر إلى الشرق من خلال عيون مستشرقين.
أسست هذه المشكلة الزمنية خللاً في المعرفة التاريخية عن الآخر إذ في وقت كان «الاستشراق» يتطور ويتنوع ويتفرغ (يتحول) استمرت النظريات الفلسفية والاجتماعية التي اعتمدت على تلك القراءات القديمة ثابتة في مكانها، وهذه مشكلة من الصعب التوصل إلى حل نهائي لها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1428 - الخميس 03 أغسطس 2006م الموافق 08 رجب 1427هـ