العدد 1427 - الأربعاء 02 أغسطس 2006م الموافق 07 رجب 1427هـ

«فن العيش» خارج الدولة

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط (9)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ما علاقة أنظمة التقاعد بنشوء أجهزة انضباط مركزة هذه المرة على الموت؟ وهل العمر الإلزامي للتقاعد من بين هذه الأجهزة؟ للإجابة عن ذلك سيكون علينا أن نعيد التفكير في أجهزة الانضباط بوصفها أجهزة إخضاع وتحكم خارجية تُفرض على الأفراد، وتجبرهم على تكييف «فن العيش» والوجود بما يتناسب مع هذه الأجهزة. بمعنى أنه جرى، مع بناء الدولة الحديثة، عملية حرف/ عدول شاملة لمسار «فن العيش» لدى البشر ليتواءم لا مع اختيارات الإنسان الخاصة، بل ليتواءم مع أجهزة انضباط خارجية طارئة غريبة عن هذه الاختيارات. وبحسب فوكو فإن «فن العيش» هو ممارسة للعيش تتخذ طابع «عناية حقيقية بالذات» تتجاوز أجهزة الانضباط والتنميط والتصنيف والقولبة.

وهذا فن يكتسبه المرء من خلال التحرر من ضغوط أجهزة الانضباط الخارجية، ويبدو أنه يكتسبه بطريقة تشبه تنشيط الإنسان لأية قدرة من قدراته التي زُوِّد بها بصورة بيولوجية كقدرة الإبصار والسمع والمشي وحتى اللغة. ومن المعروف، في نظريات اكتساب اللغة، أن الطفل يتعلم اللغة بصورة أسهل من الكبار، وأن قدرة الإنسان على اكتساب اللغة تتضاءل كلما اقترب من سن البلوغ. وبالنسبة لنوام تشومسكي فإن اللغة قدرة بيولوجية/ أحيائية لا تختلف كثيراً عن معظم القدرات الأحيائية الأخرى لدى الإنسان، بل لدى الكائن الحي عموماً. ومن المعروف أن لمعظم هذه «القدرات الأحيائية وقتاً لابد لها أن تبدأ عنده، فلا يمكن لها أن تبدأ قبله أو تتأخر عنه.


الطفل يتعلم المشي

وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإن كل طفل يتعلم المشي من غير أي تدريب. فلو حدث أن كُسرت رجل طفل عند الولادة ووضعت في جبيرة حتى الشهر الثامن عشر ثم أزيلت الجبيرة فسيمشي الطفل عندئذ من غير عوائق تذكر. أما لو أبقيت الجبيرة حتى سن السابعة فإن الراجح أنه لن يتعلم المشي». وهذا شبيه بما أثبتته التجارب مع الحيوان، فالحمامة مثلاً لابد لها أن تبدأ الطيران في سن محددة، أسبوعين أو نحوهما، «فإن أبقيت الحمامة في صندوق لا يمكنها فيه أن تحرك جناحيها، حتى تبلغ هذه السن فإنها ستطير بشكل يماثل أية حمامة قضت هذه المدة في عشها. أما لو أبقيتها أسبوعاً آخر أو أسبوعين وأطلقتها فلن تستطيع الطيران أبداً.

ومن شبه المؤكد أن اللغة تماثل هذه الحال» (نوام تشومسكي، اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة: حمزة المزيني، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط: 1، 1990، ص153). ومن شبه المؤكد كذلك أن فن العيش يماثل هذه الحال، فالإنسان الذي ينخرط في مسار الانضباطات والتنميط والقولبة في وقت مبكر من حياته فإنه يصبح عاجزاً عن العيش خارج هذه الانضباطات، فتصير هذه الأخيرة أشبه بالجبيرة على رجل الطفل المكسورة حتى سن السابعة، وأشبه بالصندوق الذي تحشر فيه الحمامة بحيث لا تتمكن من تحريك جناحيها حتى تبلغ سن الطيران. فكما يعجز الطفل عن المشي في المثال الأول، وتعجز الحمامة عن الطيران في المثال الثاني، فكذلك يعجز الإنسان الانضباطي عن العيش خارج أجهزة الانضباط بعد سن الـ 60.


إخضاع فن العيش

ولهذا السبب لا يعمر المتقاعدون طويلاً، وإذا ما كتب لقلة منهم طول العمر فإنهم يعيشون في عجز كامل وفي اعتماد كلي على الآخرين. وذلك لأنه جرى إخضاع «فن العيش» لهؤلاء في شكل الطاعة لأجهزة انضباط هي أشبه بأنبوب ممتد يحشر فيه المرء حتى يبلغ الستين من عمره، وفي آخر هذا الأنبوب يقال له: «الآن آن لك أن تنطلق إلى الخارج، عش خارج الأنبوب كما تريد»! إلا أن قدراته على الوجود في فنون أخرى من العيش قد تعطّلت وأصيبت في الصميم. وإذا استرشدنا بنيتشه في هذا السياق فسنقول إن الإنسان وجد نفسه مرغماً على التكيّفين العضوي والنفسي مع طريقة غريبة في العيش، طريقة لا تتناسب مع ما زُوِّد به من أجهزة استرشاد أولية، تماماً «مثل حيوانات مائية مرغمة على التكيف مع الحياة البرية أو الهلاك» (جينالوجيا الأخلاق، ص72). طبعاً تمكّن الإنسان الانضباطي من التكيف مع التزامات الدولة وانضباطاتها حتى على المستوى العضوي، إلا أنه صار عاجزاً عن العيش خارج هذه الانضباطات.


حيوية محددة

وهنا تظهر حيوية تلك الفئة المحدودة من الناس، والتي سبق أن أشرنا إليها ممن أتيحت لها الفرصة للاستفادة من منجزات الحداثة الطبية والصحية فارتفع أجلها المتوقع إلى ما فوق 74 عاماً، ولكنها، وفي الوقت ذاته، استطاعت أن تنقذ نفسها من التورط في شرك أجهزة الانضباط والتنميط العمومية. ومعظم هؤلاء إما أن يكونوا تجاراً أو رجال دين غير موظفين لدى الدولة أو أصحاب أعمال حرة يقعدون عن العمل وقت ما يشعرون أنهم صاروا عاجزين فعلاً عن العمل. وأتصور أن هذه الفئة مؤهلة أكثر من نظرائها «المنضبطين» لتبقى على قيد الحياة إلى سن 65 فأكثر، وفي الوقت ذاته محتفظة بصحة وحيوية واضحتين تسمحان لها بالعمل حتى سن 65 فأكثر. ومن المؤسف حقاً أن الإحصاءات الرسمية المتوافرة لا تسعف في الذهاب بعيداً في تحليل هذه الظاهرة، إلا أننا نستطيع إضاءة بعض الجوانب فيها من خلال المقارنة بإحصاءات نستقيها من دول أخرى.

ففي الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، كان هناك 18 في المئة ممن هم في عمر 65 فأكثر يعملون في العام 2002، في حين كانت النسبة 63 في المئة في العام 1900 (148.P ,2004 canamlA dlroW ehT). والسؤال هو، ما الذي هوى بالنسبة من 63 في المئة في العام 1900 إلى 18 في المئة في العام 2002؟ هل هذا من سلبيات العمر الإلزامي للتقاعد؟ وهل لهذا السبب ألغي العمر الإلزامي للتقاعد في الكثير من أماكن العمل الأميركية؟ قد لا نملك إجابة نهائية عن هذه الأسئلة إلا أنه من المؤكد أن تعميم أجهزة الانضباط العمومية على الأفراد لم يكن بلا عواقب ومساوئ، وطبعاً لن يكون انخفاض نسبة العاملين في عمر 65 فأكثر هو أهونها شراً!


فقدان السعادة

هذا إذاً هو التاريخ الطويل لبناء الدولة وصنع البحريني الطيّع المنضبط، وهو تاريخ ينطوي على التحول الجذري الأضخم الذي أصاب الإنسان البحريني الحديث، وغيّر من فنون العيش التقليدية لديه، وهو التحول الذي حدث لما وجد البحريني نفسه محكوماً بشبكة هائلة من أجهزة الانضباط وأدوات التنميط وتكنولوجيات القولبة. واليوم، وإذا ما أراد المرء أن يعد كشفاً بحساب المكاسب والخسائر من وراء بناء الدولة وما رافقها من انتشار أجهزة الانضباط العمومية في كل مكان، فإن عليه أولاً أن يتذكر لا قدرة هذه الأجهزة على تنميط الناس وقولبتهم فحسب، ولا قدرتها على التنميط حتى موتهم فحسب، بل عليه أن يتذكر ما قاله مستشار حكومة البحرين بلغريف طوال 31 عاماً، عن حياة أهل القرى بعد ثلاثين عاماً من وصوله إلى البحرين. اذ صار الناس «أفضل صحة ولم يعودوا يصابون بالملاريا، يعيشون في بيوت أفضل من السابق، ومستوى معيشتهم أعلى بكثير عما كان عليه آنذاك. معظم أطفالهم يذهبون إلى المدرسة، وكما تتوافر لديهم المستوصفات الطبية، منازلهم مزودة بالكهرباء والماء ويتنقلون بواسطة الحافلات وسيارات الأجرة (التاكسيات) والدراجات بدلاً من استخدام الحمير. لا تفرض ضرائب على المواطنين، ولا توجد بطالة بينهم... لكني مازلت أشك في أنهم أسعد حالاً وأكثر ارتياحاً عما كانوا عليه قبل ذلك» (مذكرات بلغريف، ص380). وفي سياق آخر يلاحظ بلغريف بنفسه ازدياد عدد البحرينيين المتعلمين، أي المنضبطين، إلا أنه يستدرك على هذه الملاحظة بملاحظة أخرى تقوضها وهي أن هؤلاء المتعلمين لم يصبحوا «أكثر سعادة الآن عن ذي قبل» (مذكرات بلغريف، ص277).

فقدان السعادة هو إذاً الضريبة التي على الإنسان المنضبط أن يدفعها مقابل الحصول على المكاسب والمنافع التي يتحصّل عليها من تعليم وصحة ووظيفة وراتب تقاعدي... إلخ. وإذا ما كان على المرء أن يوازن بين فقدان سعادته وبين الظفر بكل هذه المكاسب، فإن عليه أن يتذكر السؤال الفذّ الذي طرحه المسيح حين قال: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه» (إنجيل متى، 16: 26). وإذا كانت السعادة هي علامة ربح الإنسان لنفسه، فإنه لا شيء يعدل خسارة الإنسان لسعادته، لأنه لا شيء يعدل النفس - ومن ثم سعادتها - ليكون فداء لها، ولهذا فإذا ما كُتب علينا أن ننخرط في شبكة الأجهزة الانضباطية من دون تخيير، فإنه ليس علينا أن نفرط في سعادتنا تحت أية منافع حتى لو كانت «ربح العالم كله».


إسعاد الناس

يقرر أفلاطون وأرسطو والفارابي وغيرهم من الفلاسفة بأن الغاية السامية المتوخاة من السياسة - أو الدولة بالتعبير الحديث - هي «إسعاد الناس». وإذا كانت الدولة لم توفّر للإنسان الانضباطي هذه السعادة، فإننا نستنتج أن الدولة انحرفت عن غايتها السامية المتوخاة وهي «إسعاد الناس»، وبدلاً من هذا صار الناس أكثر انضباطاً إلا أنهم أقل سعادةً، وهذا ما لاحظه بلغريف نفسه على البحرينيين الانضباطيين من أهل القرى الذين صاروا أكثر انضباطاً بفعل أجهزة الدولة وقوانينها، إلا أنهم لم يكونوا «أسعد حالاً وأكثر ارتياحاً عما كانوا عليه قبل ذلك» أي قبل بناء الدولة واكتمال أجهزتها الانضباطية.

لكن لماذا نفترض أن الدولة انحرفت عن غايتها الأصلية وهي إسعاد الناس؟ أليس من الممكن أن يكون هذا الجهاز الانضباطي الضخم (الدولة) قائماً - أساساً - على غايات أخرى غير إسعاد الناس؟ وإذا كان هذا الافتراض الأخير صحيحاً فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل بإمكان الإنسان الحديث العيش من دون دولة؟ وهل هناك إمكان اليوم في التفكير من أجل ابتكار أشكال جديد من التنظيم السياسي؟ أم انه من الأجدى التفكير في تصحيح مسار الدولة وأنسنة غايتها، وفي إصلاح الخلل العميق في بنية الدولة لتكون أجهزتها الانضباطية معدة فعلاً لـ «إسعاد الناس»؟ بشأن هذه الأسئلة سيدور مقال الأسبوع المقبل والأخيرة في سلسلة هذه الحفريات المتواصلة في تاريخ بناء الدولة الحديثة في البحرين

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1427 - الأربعاء 02 أغسطس 2006م الموافق 07 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً