دخلت الحرب البرية على جنوب لبنان يومها الثاني، وحتى الآن لم تحقق القوات الإسرائيلية التي تشن الهجوم نيابة عن الولايات المتحدة أي اختراق ميداني. وكل المعلومات المتوافرة بهذا الشأن تؤكد أن «إسرائيل» تتكبد خسائر فادحة في الآليات والجنود على مختلف المحاور. وبسبب هذا الوضع الميداني لجأت تل أبيب إلى الثأر مجدداً من المدنيين والبنى التحتية فقامت الطائرات بشن غارات في العمق الجغرافي وقوضت الجسور في عكار والهرمل التي تربط البلدات والقرى في مناطق شمال لبنان. كذلك قامت بإنزال مظلي فاشل في بعلبك بقصد التشويش وتشتيت الانظار.
المعركة كما تبدو طويلة وهذا ما أربك القيادة الإسرائيلية التي أطلقت سلسلة تصريحات بهذا الشأن. فمرة تقول إنها تحتاج إلى أيام ومرة إلى أسابيع.
إضافة إلى هذا الأمر بدأت تظهر في الأفق بوادر تحركات دولية تضغط باتجاه وقف إطلاق النار وبدء البحث في إيجاد مخارج دبلوماسية للحل السياسي. فالولايات المتحدة لم تعد في وضع مريح يسمح لها الاستمرار في تأجيل اجتماع دول مجلس الأمن وشراء المزيد من الوقت لتل أبيب لتقوم بمهمة ميدانية تعطيها ذريعة سياسية معقولة للقبول بقرار وقف إطلاق النار. والدول الأوروبية، بما فيها بريطانيا وألمانيا، لم تعد تتحمل سياسة التسويف الأميركية بشأن استمرار العمليات الحربية إلى ما لا نهاية. كذلك الدول العربية الكبرى أخذت تتحرك بهذا الاتجاه. السعودية طالبت منذ وقت طويل بوقف المجازر والمذابح ودعت إلى تحرك عاجل لاسكات النار. كذلك تحركت مصر وأرسلت وزير خارجيتها إلى بيروت لإعلان وقوفها إلى جانب لبنان مؤكدة أن هناك اتصالات مكثفة للاتفاق على وقف النار خلال اليومين المقبلين. كذلك فعل الأردن، إذ قام وزير خارجيته بزيارة بيروت والإعلان من هناك عن دعم لبنان في مطالبته بوقف فوري ومباشر لإطلاق النار. وفي سورية أعلن وزير خارجيتها وقوف دمشق إلى جانب لبنان ومقاومته ودعا إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار. كذلك بادرت إيران إلى اتخاذ الموقف نفسه وأرسلت وزير خارجيتها إلى بيروت والتقى هناك بوزير الخارجية الفرنسي مجدداً دعمه للبنان ومقاومته ومؤكداً وجوب وقف العدوان.
الكل إذاً مع وقف إطلاق النار (العدوان الإسرائيلي) من المغرب والجزائر وتونس إلى السودان واليمن والبحرين والعراق. حتى دول عدم الانحياز والرابطة الإسلامية وجامعة الدول العربية والصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي... كل الدول والقوى من إفريقية ولاتينية وآسيوية وغيرها وغيرها مجمعة على ضرورة وقف شلال الدم والدمار الذي مضى عليه 23 يوماً حتى الآن.
أميركا فقط
أميركا فقط تقاوم العالم وترفض وقف إطلاق النار (العدوان) قبل التوصل إلى حل سياسي شامل. والسؤال: ما المشروع الذي تشترط الولايات المتحدة تنفيذه قبل وقف النار على لبنان؟
وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تقول إن الحرب على لبنان تهدف إلى إقامة «شرق أوسط جديد». هذا هرار سياسي. فإذا كان هذا هو الهدف فمعنى ذلك أن الحرب لن تنتهي قبل عشرين سنة أو على الأقل ستستمر إلى نهاية عهد جورج بوش في العام 2008.
الكلام الكبير الذي أطلقته رايس في مناسبة العدوان على لبنان سخيف وتافه لأنه يربط معركة محدودة على بلد صغير بمشروع ضخم يطول دول المنطقة العربية وتحديداً تلك الممتدة على طول خط الأزمة من فلسطين إلى أفغانستان.
حكومة إيهود أولمرت كانت أكثر دقة في تحديد أهدافها. فهي قالت الكثير من الكلام المتعارض، ولكنها اجمعت في تصريحاتها المتفاوتة الأهداف على تعيين نقاط تراوحت بين غزو مؤقت وهجوم محدود وموضعة قوات في الجنوب وإعادة احتلال لأجزاء من الشريط الحدودي بقصد تدويل الخط الفاصل بين البلدين (قوات دولية أو متعددة الجنسية) وأبعاد صواريخ حزب الله عن شمال فلسطين المحتلة وعمق أراضيها.
الاختلاف بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» ليس على الأهداف الكبرى (تقويض الشرق الأوسط وإعادة هيكلة دوله) وانما على الإمكانات التي تتمتع بها تل أبيب وقدرتها على تحمل هكذا مهمات كبيرة. وحتى الآن كما ظهرت النتائج الميدانية أن تل أبيب غير قادرة وحدها على تأمين تلك الأهداف التي حددتها لنفسها حين أعلنت الحرب المفتوحة على لبنان. وإذا كانت حكومة أولمرت عاجزة عن إبعاد الصواريخ وغير قادرة على تحقيق اختراق جغرافي في الجنوب فكيف يمكن لها أن تتوصل إلى تنفيذ مشروع هائل الحجم أعلنت عنه رايس (شرق أوسط جديد).
المسألة إذن تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب. وهي تفتح أبواب التكهن على مصير لبنان ومستقبله ووحدته وإمكان استمرار تحمله لنتائج التداعيات السياسية والاقتصادية والبشرية والجغرافية التي غطت كل مناطقه وطوائفه من الجنوب (المواجهات الدموية المباشرة) إلى العاصمة والوسط والبقاع (بعلبك) والشمال (عكار والهرمل).
الكل يتحدث عن أمن «إسرائيل» ومستقبل مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بينما لبنان لا أحد يتحدث عن إمكاناته ووجوده وفرصه في حماية شعبه وأرضه ومستقبله. وهذا الحديث المؤجل أو الكلام الممنوع قوله يكشف عن وجه آخر للمسألة. والوجه الآخر يؤكد عودة لبنان من جديد إلى ساحة مفتوحة للصراع... أي أنه تحول إلى منصة صواريخ سياسية تعتمده الدول الكبرى لتوجيه الرسائل وتبادلها فوق المدن وعلى رؤوس الناس والعباد.
الحرب الأميركية - الصهيونية على لبنان هي في جوهرها معركة طويلة ضد الدول العربية وتحديداً المحور الثنائي السعودي - المصري، وكذلك تعتبر في وجه من وجوهها معركة ضد المحور الثنائي الآخر السوري - الإيراني. ولهذا السبب يمكن أن نفهم لماذا لم توفر الطلعات الجوية والصواريخ الأميركية كل المقومات والمرتكزات السياسية والاقتصادية والتنموية والخدماتية والحياتية في مختلف المناطق والأراضي والطوائف. فالحرب جاءت لإلغاء مشروع الدولة من خلال تحطيم جوهر «اتفاق الطائف» الذي قام في أساسه على معادلتين: إعادة الاعمار واستكمال التحرير. وحين أنجز لبنان مهمته الثنائية طلبت واشنطن من تل أبيب تقويض الاتفاق وما انجزه اللبنانيون خلال فترة 15 عاماً.
الهدف الأميركي البعيد هو الطموح الدموي (المخاض) لتأسيس «الشرق الأوسط الجديد». والهدف الأميركي القريب تقويض «اتفاق الطائف» تمهيداً لإعادة إنتاج صيغة جديدة للكيان السياسي اللبناني. وهذه الصيغة كما يبدو من الصعب تنفيذها من دون «مخاض». وما يحصل في لبنان من دمار وخراب وسحق ومجازر وقتل يصب كله في سياسة «المخاض».
المسألة إذاً تجاوزت لبنان. فهذا البلد عاد إلى محطة تشبه إلى حد ما تلك الفترة التي عاشها في العام 1975 - 1976 وأدت إلى انفتاح ساحته الداخلية على منازلات سياسية دولية وإقليمية انهكت قواه وعطلت عليه إمكانات التطور ودفعته إلى التراجع سنوات طويلة. وهذه المسألة تعتبر نقطة مهمة في المعركة القائمة الآن، ويبدو أن قوى «8 آذار» و«14 آذار» وحكومة لبنان لم تستوعبها بسبب هول الضربات التي تلقتها وسقطت عليها بحراً وجواً وبراً.
وحتى تستوعب الدولة مدى الخسائر وتلك النتائج المترتبة التي أسفرت عنها الحرب المفروضة والمفتوحة والمكشوفة على لبنان لابد من وقف فوري ومباشر للنار على أرضه وشعبه. وحين يتوقف إطلاق النار وهو موضوع توافقت عليه دول العالم اجمع وبقي على الولايات المتحدة أن تقتنع بأهمية الطلب الإنساني ستكتشف الدولة حقيقة ما جرى والمحصلة العامة للمأساة.
وقف إطلاق النار بات حاجة ملحة وهذا ما بدأت الإدارة الشريرة تتفهمه على رغم الإجازات الطويلة التي أعطتها لحكومة أولمرت. واحتمال وقف النار قريباً بات من الأمور الواردة، ولكن هذا لا يعني أن الأزمة انتهت وبات الحل النهائي على «قاب قوسين».
وقف إطلاق النار (العدوان) لا يعني أن مشكلة لبنان انتهت وان هذه المعركة هي الأخيرة. هذه المعركة كما تبدو الأمور بداية حرب طويلة (مخاض الشرق الأوسط) ومجرد عناوين لأهداف قصيرة المدى (قوات دولية وأبعاد صواريخ الحزب). وبما أن «المخاض» طويل والصواريخ لاتزال تنهمر على المستوطنات والمستعمرات والقوات الدولية لم تتوافق على تشكيلها الدول المعنية بالساحة اللبنانية المفتوحة الأبواب على الخارج، فمعنى ذلك أن الوقف المحتمل للنار في قرار سيصدر قريباً عن مجلس الأمن مجرد جولة (استراحة محارب) لإعادة قراءة النتائج والبناء عليها لتجديد ذاك «المخاض» الذي تعطلت عجلاته في هضاب الجنوب ووديانه.
المسألة طويلة جداً ولبنان هو الضحية أو تلك الساحة المفتوحة والمكشوفة أمام القوى الدولية والإسرائيلية والإقليمية لاختبار قواها وموازينها ومزاجها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1427 - الأربعاء 02 أغسطس 2006م الموافق 07 رجب 1427هـ