مضى 21 يوماً على الحرب الأميركية - الصهيونية على لبنان، وحتى الآن لم ترتسم معالم الحل السياسي على الأرض. وهذا الأمر يعني في لغة الحرب أن المواجهة العسكرية لاتزال مفتوحة على احتمالات مختلفة.
مجزرة قانا الثانية كشفت بعض خطوط الصورة المتوقعة للمخرج الدبلوماسي. والمقارنة بين ما حصل من نتائج سياسية/ ميدانية في العام 1996 وما حصل أمس الأول في مجلس الأمن تعطي فكرة موضوعية عن ذاك الاختلاف في موازين القوى الدولية والعربية والإقليمية.
في المجزرة الأولى تحرك العالم للدفاع عن لبنان ونجح مجلس الأمن معتمداً على الدول الكبرى في صوغ «تفاهم نيسان» الذي أقر رسمياً في أبريل/ نيسان 1996. وقضى ذاك التفاهم بمنع «إسرائيل» من استهداف المدنيين وقصف القرى والاحياء وقتل الأبرياء. وجاء التفاهم الذي صنعته الاتصالات الأميركية (بيل كلينتون) والفرنسية (جاك شيراك) والسورية (حافظ الأسد) واللبنانية (رفيق الحريري) لمصلحة حزب الله. فالحزب آنذاك وجد في التفاهم مظلة دولية/ إقليمية تمنع «إسرائيل» من الانتقام والثأر من الناس وتعطيه المجال السياسي للتحكم في إدارة الصراع العسكري على الأرض. وهذا ما حصل ميدانياً، إذ نجح حزب الله في طرد الاحتلال بعد أربع سنوات من توقيع ذاك التفاهم.
الآن تبدو الأمور مختلفة. فالمجزرة الثانية لم تحرك «الضمير الرسمي» لدول العالم الكبرى. وكل ما صدر عن جلسة مجلس الأمن الطارئة مواقف عاطفية ولفظية لا قيمة قانونية لها. فالدول الكبرى اكتفت بإعلان أسفها ولم تتحرك لصوغ مشروع قرار أو صيغة تفاهم تمنع «إسرائيل» من تكرار أفعالها الشنيعة.
العالم تغير منذ العام 1996. وباستثناء فرنسا (شيراك) التي بادرت إلى الشجب والاستنكار وتضامنت معها الدول الكبرى الأخرى ظهر الموقف الأميركي وكأنه لايزال على رأيه الشرير. فواشنطن أبدت أسفها واعتبرت أن المصائب والكوارث والمجازر ضرورية (مخاض) لإعادة إنتاج «الشرق الأوسط الجديد». ولهذا السبب عادت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى واشنطن من دون الذهاب إلى الدول العربية، كذلك لم تتوقف في فرنسا كما كان الأمر قبل عشر سنوات.
أميركا تعتبر أنها سددت ضربة عسكرية للدور الفرنسي في لبنان ونجحت في تحطيم تلك البنى التحتية التي تأسست عليها الدولة التي نهضت برعاية سعودية - مصرية. كذلك تعتبر أنها وجهت ضربة عسكرية إلى الثنائي السوري - الإيراني من خلال تفكيك البنى السكانية للمقاومة. ولذلك ترى نفسها في موقع الأقوى وليست مضطرة إلى تقديم تنازلات أو إعطاء دور لقوة دولية تنافسها على «الشرق الأوسط الجديد». وبسبب هذا الموقف السلبي الأميركي أرسل الرئيس الفرنسي وزير خارجيته أمس إلى بيروت للبحث في مشروع حل سياسي تنوي باريس طرحه على دول مجلس الأمن. كذلك يمكن أن نفهم معنى زيارة وزير الخارجية الإيراني بيروت بعد غياب عن السمع دام نحو 20 يوماً.
الدول المعنية في التطور الميداني الحاصل في الساحة اللبنانية فهمت كما يبدو بعض إشارات تلك الرسائل العنيفة التي وجهتها الولايات المتحدة من خلال وكيلها الإقليمي في «الشرق الأوسط».
الاختلاف في النتائج السياسية بين قانا الأولى (1996) وقانا الثانية (2006) يكشف في النهاية نسبة تلك التعديلات في موازين القوى الدولية والعربية والإقليمية. فالسياسة ترسمها الحرب والحلول الدبلوماسية تخضع في النهاية إلى توازن القوة ونسبة التوازن القائم في معادلة الصراع.
أميركا تحكمها إدارة تحمل ايديولوجية شريرة تقوم على فكرة التقويض من الخارج. والتقويض يعني هدم الدول القائمة على توازنات صنعتها سياسة استعمارية أوروبية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1914 و1945). واشنطن تعتبر أن الحدود السياسية التي رسمتها باريس ولندن آنذاك بحاجة إلى إعادة ترسيم. وهذه الإعادة تحتاج إلى قوة عسكرية تخلخل الأسس التي نهضت عليها تلك الكيانات السياسية. وتعتبر واشنطن أن منطقة «الشرق الأوسط» مساحة مفتوحة لصراع «الملل والنحل» أو الطوائف والمذاهب وبالتالي فإن «الدول الجديدة» يجب أن تعكس واقع الشعوب كما هو موجود على الأرض. وأميركا تعلم أن مثل هذا المشروع من الصعب تمريره من دون حروب تقوض تلك الدول التي تأسست في العام 1920. وبهذا المعنى يمكن فهم ما قصدته رايس حين استخدمت مفردة «مخاض». فالمخاض يعني الألم والوجع والمجازر كما هو حال قانا. فقانا كانت إشارة أميركية - صهيونية لذاك «الشرق الأوسط الجديد» الذي تخطط إدارة واشنطن الشريرة لإقامته على انقاص «الشرق الأوسط القديم» الذي أسهمت فرنسا وبريطانيا في ترسيم حدوده بالدم والألم والأوجاع أيضاً.
هذا المشروع الدموي الشرير الذي يعتمد سياسة التقويض (المخاض) هو ما ظهر جلياً حتى الآن في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان. وترى واشنطن أنها يجب أن تمنع فرنسا والدول العربية من لعب أي دور حتى لا تعطل عليها خطة الهدم وإعادة البناء وفق التصور الأميركي الذي تراه مناسباً لدول «الشرق الأوسط». والتصور المذكور لم يعد سراً وواشنطن تنفيه حتى لا تتشكل ضده ممانعة عربية وإقليمية تعطل عليه إمكانات نجاحه.
هذا هو المشروع أو التصور الأميركي لهيئة «الشرق الأوسط الجديد». إلا أنه ليس بالضرورة كل ما تفكر فيه تلك الإدارة الشريرة يصبح مجموعة املاءات تفرض على الواقع. لذلك كانت الحرب على غزة وبعدها جاءت الحرب على لبنان. فالعدوان الصهيوني المدعوم أميركياً كان محاولة اختبار (جس نبض) لردود فعل الدول العربية والإقليمية وتلك الأطراف المعنية بالمسألة. والمجازر التي ترتكب يومياً في غزة والضفة ولبنان كانت محاولة فحص لمدى تماسك البنى الأهلية والحد الذي تستطيع أن تتحمله قبل الانهيار العام. وفي هذا المعنى يعتبر محور واشنطن - تل أبيب أن مجزرة قانا (قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة) بالون اختبار لمدى قدرة الناس على التحمل. إنه «مخاض» كما قالت رايس. وبكلام أوضح المجازر ضرورية (الألم والدم) حتى تظهر معالم الوليد الجديد الذي تتوقع مجموعة الأشرار في «البيت الأبيض» خروجه قريباً من الرحم.
هذه العقلية الشريرة الطاغية هي التي تقود الآن الولايات المتحدة. وكل الكلام الذي صدر سابقاً عن «التنمية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«تمكين المرأة» مجرد «هرار ايديولوجي» ومحاولة لشراء الوقت والضحك على شعوب مسكينة تعاني الذل والهوان من أنظمتها.
لبنان الآن وبعد حرب مفتوحة ومكشوفة تستهدف تقويض دولته ومقاومته بات ساحة اختبار لمدى نجاح تلك الأفكار الجهنمية. فالحرب ليست ضد فئة ولمصلحة فئة. فالجميع سواسية أمام عنف تلك الآلة الحربية التي تريد ترسيم حدود جديدة للطوائف والمذاهب. ولهذا يمكن اعتبار أن لبنان نجح بحدود نسبية في منع تمرير مشروع الفتنة الذي تحركه تلك الأبواق التي تدعي بطولات وهمية وغيرها يقاتل على الأرض. بينما الذي يقاتل على الأرض يبدو الأكثر وعياً لتلك الاستهدافات. وحزب الله في هذا المعنى أظهر تواضعاً في التعامل مع الحرب فهو يقاتل ولا يدعي البطولات الوهمية، وهو يظهر حكمة سياسية وحنكة في إدارة المعركة وخصوصاً في الجبهة الداخلية لمنع تصدعها وانهيارها. والموقف الشجاع الذي أظهرته القوى السياسية وخصوصاً على مستوى الرئاستين (مجلس النواب والحكومة) أكد تماسك الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية.
المعركة كما تبدو من ملامح الصورة المهشمة التي ظهرت على أرض قانا لم تنته فصولها. فأميركا أبطلت مشروع وقف إطلاق النار. ورايس عادت إلى واشنطن من دون المرور في العواصم العربية أو الأوروبية... وهذا يعني أن الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» أعطت فرصة أخرى لحكومة إيهود أولمرت. والفرصة تعني المزيد من الآلام (المخاض) وعلى لبنان أن يتحمل ويصبر ويعاند ويمانع. فهذا قدر البلد الصغير. وفي حال نجح في الحد من آثار الجريمة واحتوى تبعاتها وتداعياتها فمعنى ذلك أن هناك إمكانات متوافرة لإحباط المشروع الأميركي - الصهيوني. وفي حال عجز عن المهمة التي فرضت عليه فمعنى ذلك أن الباب انفتح لعبور الأهداف الجهنمية إلى حلقات أخرى في دائرة «الشرق الأوسط»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1425 - الإثنين 31 يوليو 2006م الموافق 05 رجب 1427هـ