في هذه الحلقة الثانية، وتحت العنوان ذاته سنواصل كشف المزيد من معطيات التاريخ التي سجلتها غريس هالسل في كتابها «يد الله» لتصل إلى قناعة راسخة بأن وعد بلفور لا يهدف إلى إقامة دولة يهودية، بقدر ما كان يهدف إلى إقامة مرتكز يهودي قوي مسلح حتى أسنانه كما أفاد بذلك، أستاذ علوم الدين والكاهن المشيخي دونالد واغنر إلا أن شافتسبري شدد على «أن اليهود ضروريون لأمل الخلاص عند المسيحيين». إضافة إلى ذلك «وجد في انتقال اليهود إلى فلسطين مكاسب تجارية... وتفتح أسواق كبيرة أمام مصالحها الاقتصادية».
ويضيف واغنر في كتابه «التوق إلى هرمجيدون»: إن «هذه الأهداف السياسية توافقت مع أهداف وزارة الخارجية البريطانية».
ويضيف واغنر مستنتجاً أن شافتسبري كان قدراً نموذجياً. لقد أراد أن يذهب كل اليهود إلى فلسطين... لكنه لا يحب اليهود كيهود. كان يصفهم بأنهم ذوو قلوب سوداء ورقاب غليظة. ويضيف «انهم غارقون في الإثم وفي الانحلال الأخلاقي وفي الجهل بالمسيح ومملكة الرب». (راجع كتاب «يد الله» ص ).
إلا أن ما مرّ بنا وما سجلناه من حب المسيحيين لليهود، الذي ينقلب إلى كره مرّ لهم على أعلى المستويات، هذا الحب في أعلى مستوياته عندما يعبّر عنه أصحابه من القدريين من أمثال شافتسبري لحظة ما يبلغ نفاقهم لليهود مبلغاً من مرض تضيق به نفوسهم فينقلبوا على ذلك الحب، وينفثونه على حقيقته بلا نفاق كحقد أسود، كما وجدنا نموذجه في انقلاب شافتسبري نموذج القدريين في حب اليهود.
على أن هذا النموذج من العلاقات التي يؤسسها اليمين المسيحي مع اليهود والمغلفة في ظاهرها بحب شديد الشوق، يخرج اليهود من دائرة المجتمعات البشرية في علاقاتهم وحبهم لبعضهم بعضاً، وفي حبهم واحترامهم لبعضهم بعضاً إلى حال من التمييز العنصري المترفع على البشرية، وهو نوع من الحب الانتقامي المؤدي إلى عكس أهدافه الظاهرة «الذي يجعل اليهود مختلفين ومحكومين بالإبادة»، ويمكننا في ضوئه أن نطلق على هذا النوع من الحب... الحب الذي يتم فيه دس السم في العسل... ونماذجه متوافرة أمام الباحث المدقق في العلاقات التاريخية التي تؤسس للعلاقة بين المسيحيين واليهود عبر عشرات القرون.
فمثلاً، نرى أن الصليبيين - الإنجليز خصوصاً - غلاظ في اضطهادهم لليهود... في الوقت الذي كان الجنود يحاربون من أجل طرد المسلمين من الأرض المقدسة والانتقام للصلب (المسيح)، فقد أباد الجنود المسيحيون مجتمعات يهودية من جذورها.
وثمة أمور أخرى كثيرة يمكن للباحث والدارس للعلاقات التي تربط بين اليهود والمسيحيين أن يطلع عليها ويخضعها للدراسة والتحليل وصولاً إلى ما عساه أن يصل إليه من قناعات يحكم بها على ماهية العلاقات الحالية القائمة بين «إسرائيل» الصهيونية من جهة وبين مجموعة الدول المعترفة والمتعاملة مع «إسرائيل»، وعلى رأسهم أميركا، بريطانيا، فرنسا وألمانيا، فمن المواجهات الحاسمة التي تمت بين المسيحيين واليهود مثلاً، أن أوروبا المسيحية أغلقت كل أبوابها في وجه اليهود. ففي العام طُرد اليهود من انجلترا، وفي العام طُردوا من إسبانيا، وبعد ذلك بوقت قصير طُردوا من البرتغال.
ويمضي العداء المسيحي ضد اليهود في تأججه وتصاعده عندما أبدى قائد حركة الإصلاح الديني مارتن لوثر كُرهاً مُرّاً ضد اليهودية واليهود. فقال: «يجب أن يُطرد اليهود من الدولة (ألمانيا)، وأن يُمنعوا من عبادة الله، وأن تُصادر التوراة وسائر كتب الصلاة لديهم، وإن كنسهم يجب أن تُحرق وبيوتهم يجب أن تُدمر».
وتمضي غريس هالسل في طرح المعلومات التي ثبتتها في كتابها (يد الله)، فتبيّن أنه «مع حركة الإصلاح تحول الكثير من المسيحيين من كراهية اليهودية واليهود إلى نوع آخر من التمييز يدعى السامية الفلسفية التي تدعو إلى اعتبار اليهود الشركاء المحبوبين ليس لأنهم يهود ويمارسون اليهودية، لكن لأن لهم دوراً في خلاص المسيحيين».
«تجد السامية الفلسفية تعبيراً أيضاً في المسيحية الصهيونية... إذ لايزال الأصوليون اليوم لا ساميين بصورة عامة، من شدة «حب» معظمهم لـ «إسرائيل»، وهو الحب الذي يجعل اليهود مختلفين ومحكومين بالإبادة...»، وتستمر غريس فتخبرنا في كتابها: «مع ذلك فإن لمعظم الأصوليين ذوي النفوذ الذين يتمتعون باحترام في دوائرهم الخاصة، تاريخاً حافلاً بتعليم أتباعهم أن اليهود كانوا وراء كل متاعب العالم. ففي الثلاثينات كان الأصوليون - أمثال رئيس تحرير صحيفة «أملنا» (أَوَرهوب) ارنولد غايبالين ورئيس معهد مودي الإنجيلي جيمس م. غراي، ومؤسس «المدافعون عن العقيدة المسيحية» غيرالد ب. وينفورد - يعلمون أتباعهم أن اليهود كانوا المحرضين على القيام بمؤامرة عالمية».
وقبل أن نمضي بعيداً في دراستنا يجدر بنا الوقوف عند بعض النقاط المهمة التي مرت بنا لنحللها ونبدي رأينا فيها مثل، نرى أن حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر لم تدجن ولم تخفف، مجرد تخفيف من كراهية المسيحيين لليهودية كديانة ولا لليهود كأتباع لتلك الديانة، ولكن حوّلوها إلى نوع آخر من التمييز ابتدعه المسيحيون من نبوءات عبر قرارات سطحية وتفسيرات قسرية يدغدغون بها أحلام اليهود على أنهم شعب الله المختار وأنهم المحور الرئيسي في خطة الله للكون... وأن الخطوة التي يشيعون بها المسيحيين عن الإسرائيليين ليست إلا عملية تقييم وخداع لليهود لمزيد من التضحية بهم، في سبيل مصالحهم لا أكثر ولا أقل، وان ذلك الحب الشديد لا يعدو كونه عملية إبراز لليهود كأمة شاذة عن سائر الأمم لا يمكن التعامل معها أخذاً وعطاءً في إطار القوانين الدولية التي تتعامل بموجبها وعلى أساسها دول العالم.
غير أنه في مسار مواصلتنا البحث والدراسة والتحليل ينكشف أمامنا أن العداء المسيحي لليهود ليس ذا اتجاه واحد بل هناك عداء يهودي أكثر حدية للمسيحيين... نرى نموذج هذا العداء المضاد والمتصارع أنه سيبقى مستمراً، وأن نيرانه ستظل متأججة بين الطرفين حتى ينفي أحدهما الآخر، أضيف اليه «نفياً ديالكتيكياً» مبنياً على النفي ونفي النفي، ومعه فإنه لا مفر في ظل هذا الطرح من أن تقتلني أو أقتلك ولا خيار للفهم بأن النفي ونفي النفي هي أطروحات نظرية بحتة، وأنها في ظل التطبيق العملي نستخلص حقيقتها بأنها عملية تكاملية طبقاً لما شرحته وضربت عليه مثلاً عملياً أمام مجموعة الرفاق في مجلس الأربعاء.
غير أن ما يهمنا عند هذا المفصل من الحوار أن نثبت نموذجاً من ردة الفعل التي من الطبيعي أن تتفجر في ظل الصراع اليهودي المسيحي، مثل ذلك الذي سجله لنا مؤلف كتاب «حكومة العالم الخفية» شيريب سبيربدوفيتش، منبهين منذ البدء إلى أننا لا نتفق مع كل أطروحاته التي سجلها في كتابه ذاته. وللقارئ الكريم، وفي اطار سياسة صحيفة «الوسط»، إذا ما تيسر له مثل هذا الكتاب، أن يبدي رأيه فيه سواء كان مؤيداً أو مناهضاً، لأن صحيفة «الوسط» بطموحاتها تريد أن تثري عالمها الخاص بها والارتقاء بهذا العالم إلى مستوى الصحف العالمية، وهو حق لكل من يملك الطموح النافذ...
وبالعودة إلى ما اشرنا إليه قبل قليل مما سجله يقول مؤلف كتاب حكومة العالم الخفية، وبالوقوف عنده: وجه جيمز روتشيلد نداءً إلى اليهود العام إذ نقتبس كامل نصه في التالي لتمكين القارئ الكريم من ان يحدد موقفه منه، ورده عليه:
«إن نجاح اليهود في قتل عدو الحرب القيصر نقولا الأول، وارتقاء عملاء اليد الخفية - ديزرائيلي في انجلترا، ونابليون الثالث في فرنسا، وبسمارك في ألمانيا، ومازيني في إيطاليا - إلى سدة الزعامة شجع جيمز روتشيلد الثالث على محاولة (الثورة الأميركية) التي اقترحها ديزرائيلي، وذلك يستدعي تعبئة جميع اليهود، فقرر إعلان الرئاسة السرية للحكومة اليهودية العالمية العليا وسماها (الحلف اليهودي العالمي)، وفي الفرنسية (الحلف الإسرائيلي العالمي)، وعيّن أحد عملائه اليهود وهو أدولف كريميو صدراً أعظم لمحفل الشرق الأعظم في فرنسا وهو (وزير شئونه الخارجية) الرئيسي».
وقد أعادت «المورنينغ نيوز» اللندنية نشر بيانه ليهود العالم، إذ يقول: «إن الاتحاد الذي ننوي تأليفه ليس باتحاد فرنسي أو إنجليزي أو إيرلندي أو ألماني إنما هو يهودي عالمي، فالشعوب الأخرى مقسمة إلى قوميات إلا نحن فلا مواطنين لدينا وإنما لنا إخوة في الدين فقط».
ويضيف موضحاً: «لن يكون اليهودي، تحت أي ظرف، صديقاً للمسيحي أو المسلم قبل أن تحين اللحظة التي يشع فيها نور الإيمان اليهودي - وهو الدين الوحيد المبني على العقل - على العالم... إننا نعيش في أراضٍ أجنبية وليس بمقدورنا أن نهتم بمصالح أقطار غريبة عنا».
ويسجل شيريب سبيريدوفيتش مجموعة من المعلومات ويضيف «ينبغي أن تنتشر التعاليم اليهودية في العالم بأجمعه، وكيفما قادنا القدر وعلى رغم تشتت شملنا في جميع أنحاء الأرض يجب أن نعتبر أنفسنا العنصر المجتبى... وإذا اقتنعتم بهذا يا يهود العالم فعليكم أن تصغوا إلى هذا النداء وبرهنوا على إيمانكم به وموافقتكم عليه. إن هدفنا عظيم ومقدس، ونجاحه مؤكد، «فالكاثوليكية عدونا الدائم» مطروحة أرضاً وإصابة زعامتها مميتة، والشبكة التي ألقاها اليهود على الأرض تتسع وتنتشر يومياً» ومع مثل هذه الطروحات العدوانية، ينكشف أمام القارئ أنه العداء الراسخ الذي لا مفر منه ولا محيد عنه إذ إنه في احترام الصراع بين اليهود والمسيحيين، ينكشف المخطط اليهودي.
ويختتم كلامه بالقول: «لقد حان وقت جعل بيت المقدس مكان عبادة لكل الأمم والشعوب، وسترتفع راية التوحيد اليهودي خفاقة في أكثر الشواطئ بعداً، إنه اليوم الذي يمتلك فيه أبناء إسرائيل كل ثروات العالم وموارده ليس ببعيد».
يتضح مما قيل أن الخلافات مبنية على تصادم مروع ومواجهات مريرة بين اليهود والمسيحيين، وأن ما يثار عن حوار بين المسيحية واليهودية ليس إلا مجرد محاولة لتأخير لحظة التصادم بينهما.
وإن هناك الكثير من المؤشرات والمعطيات التاريخية التي تنبئ بنهاية المخططات اليهودية، وعليه فليكف المتحدلقون والانتهازيون والضحالي في الاطلاع على مكنونات التاريخ وسيف ح
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ