لعل المتتبع للأزمة الإنسانية عموماً، يلاحظ أنها في العمق أزمة أخلاقية وأزمة قيم، فكل النزاعات والصراعات بين بني البشر تنطلق من تحكم النزعات الأنانية وطغيان حب الذات والسيطرة والتملك. فهذه الوحشية التي يشهدها العالم، حيث يقدم الإنسان على ذبح أخيه الإنسان بدم بارد، أو تجويع الأفراد والجماعات ومصادرة ثرواتهم، وغيرها من أشكال الاعتداء، ليست إلا تعابير عن هذه المشكلة الأخلاقية المستفحلة.
وهذا الانقلاب في القيم والموازين والتهتك الصارخ والانفلات من كل القيم، إلى الحد الذي تشرعن فيه حالات الشذوذ والتفلت الأخلاقي، هو تعبير آخر عن هذه الأزمة الأخلاقية المتفاقمة يوماً بعد يوم على مستوى العالم.
وهكذا سيجد المتتبع أن المشكلات الإنسانية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة تنطلق في حقيقتها من عمق أخلاقي وروحي، ولهذا استهدفت بعثة الأنبياء معالجة هذه المشكلة كأولوية أساسية، ولم يحصل تأكيد على أمر من قبل الرسالات السماوية كما حصل على المستوى الأخلاقي. وقد روي عن السيد المسيح (ع) أنه قال: «إنما جئت لأكمل الناموس»، كما لخص النبي محمد (ص) هدف رسالته بكلمته الشهيرة: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وهو المعنى الذي أكده القرآن عندما حدثنا عن أن وظيفة الأنبياء هي العمل على تزكية النفوس وإخراجها من ظلمات الجهل والطغيان إلى فضاءات العلم والنور، قال تعالى في كتابه الكريم: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» (الجمعة: ).
إننا نعتقد أن لانهيار المنظومة الأخلاقية، انعكاسات خطيرة ومباشرة على كل الأصعدة، الأمر الذي يهدد الإنسانية برمتها ويجعلها تعيش تحت وطأة الأزمات المتكررة والمتلاحقة، بينما يفضي الاستقرار الأخلاقي إلى استقرار عام وشامل بما في ذلك الاستقرار الشخصي للفرد، فالإنسان اليوم يعاني قلقاً داخلياً وهو في أمس الحاجة إلى ما يمنحه الأمن الداخلي، وهذا الأمن لن يجده إلا بالعودة إلى قيم السماء والعودة إلى الله. قال تعالى: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» (الرعد: ). وهكذا الحال على المستوى الاجتماعي، فإن الخصومات والنزاعات ستزول حتماً عندما يأخذ الناس بالقيم الأخلاقية والتعاليم السماوية الداعية إلى المحبة والتعاون والتعاضد والتكافل الاجتماعي، والنابذة لكل أشكال التدابر والتناحر وسوء الظن بالآخر والإساءة إليه على المستويات المادية أو المعنوية.
إن سيادة هذه القيم الاجتماعية والأخلاقية سيكون لها تأثير مباشر على النظام الاقتصادي كما لها تأثيرها الإيجابي على الحياة الاجتماعية والسياسية.
وفي هذا السياق، فإننا نعتقد أن العمل السياسي ليس بمنأى عن هذه الأجواء، كما قد يحاول البعض أن يصور ويطرح عندما يقال إن السياسة لا دين لها ولا أخلاق لها. فهذا المعنى يرفضه الإسلام بالمطلق، لأنه يرى أن القيم الأخلاقية لابد أن تفرض نفسها على مختلف الأصعدة والأنشطة الإنسانية، وبالدرجة الأولى على صعيد العمل السياسي لما له من تأثير كبير على الحياة الإنسانية برمتها، فالرجل الذي يمتهن السياسة لا يعيش في جزيرة منعزلة عن الناس، حتى يتفلت من القيم الأخلاقية أو أن يعمل بهواه ويتحرك بغرائزه. إننا أحوج ما نكون وفي هذه المرحلة بالذات إلى أنسنة السياسة وإضفاء الروح الأخلاقية على كل الخطط والممارسات السياسية، وعلى حركة ما يصطلح عليه في واقعنا بـ «رجال السياسة». لأن مشكلتنا تنطلق من أن رجال السياسة عموماً وضعوا مسافة بعيدة بين مصالحهم التي جعلوها تسير بعيداً من نطاق المصلحة العامة وبين المسألة الأخلاقية التي لابد عن اعتمادها في حركتهم السياسية لما فيه مصلحة الوطن والأمة عموماً.
إن الحاجة إلى الأخلاق في العملية السياسية كالحاجة إلى الماء في الحياة، وكما أن الحياة تغدو موتاً عند فقدان الماء كذلك تغدو الحياة السياسية دماراً عند الإصرار على رفض العمل بالمبادئ الأخلاقية السامية في العملية السياسية.
ولعل المعاناة الكبرى التي تفرض نفسها على شعوبنا تنطلق من هذا الإصرار لدى الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، وحتى الفريق المعارض في كثير من الأحيان، على سلوك الطرق الملتوية والالتفافية التي يبتعد فيها العمل السياسي عن المسارات الأخلاقية.
إن مشكلة العالم تكمن في هذا السقوط المريع للموازين الأخلاقية لحساب موازين القوة العسكرية والأمنية والسياسية، ولعل هذا ما يفسر كل هذا الصمت وهذا السكوت الأوروبي والغربي أمام الوحشية الإسرائيلية التي لم تدع أسلوباً من أساليب إسقاط كل قواعد القانون الدولي إلا واستخدمته في حرب الإبادة التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني.
لقد كانت «إسرائيل» تنتظر استسلاماً فلسطينياً كاملاً قبل العملية النوعية الأخيرة للمقاومة الفلسطينية، وكان العالم المستكبر ينتظر أن يأتي الحل لحسابه على أنقاض الاستسلام الفلسطيني، ولعل هذا ما يفسر اللامبالاة الأميركية والأوروبية أمام كل انتهاكات حقوق الإنسان وأمام الجريمة المنظمة التي تقوم بها «إسرائيل» بشكل لم يشهد العالم مثيلاً له. لأن هؤلاء راهنوا، ومازالوا يراهنون، على أن يرفع الشعب الفلسطيني الراية البيضاء ليبدأوا من جديد بصوغ مشروع استسلام شامل تكون فلسطين بدايته هذه المرة وليس العراق، ولأن الرئيس الأميركي نفسه، الذي كذب على العالم في مسألة أسلحة الدمار الشامل العراقية، ثم قال للناس لا تتحدثوا عن أننا استخدمنا سلاح الكذب، يريد التأسيس لكذبة جديدة في المنطقة تكون المنطلق لمشروع تدميري جديد.
إننا في ظل هذه الأجواء نشعر بالألم حيال هذا الإصرار العربي على الخضوع لما تمليه أميركا، وعلى ترك الشعب الفلسطيني لمصيره، كما نشعر بضغط المأساة أمام هذا التداعي لتحريك الروح المذهبية بطريقة عشائرية قبلية لتأكل ما تبقى من روح المواجهة في الأمة وتعيد القوة إلى الاحتلالين الإسرائيلي والأميركي، ولتصنع الأجواء الممهدة لفتنة كبرى يصفق لها الأميركي ويقهقه أمامها الإسرائيلي جذلان فرحاً...
إننا نرى أن المعادلة الجديدة التي رسمت العملية النوعية الأخيرة للمقاومة الفلسطينية ملامحها الأولى في حركة الصراع الراهنة مع العدو، تستدعي مبادرة كبرى من الأمة لتواكبها في إطار مسعى وحدوي بين جناحي الأمة من السنة والشيعة لتصويب مسارات المواجهة والسير في خط مواجهة عدو الأمة، لا أن تترك الأمور بالطريقة التي تدور فيها رحى الفتنة الداخلية لتأكل الأخضر واليابس في ساحات الأمة وميادينها.
إنني أمام هذه المخاطر المحدقة بالأمة كلها، أناشد العلماء والطليعة الواعية في الأمة، أن يتحركوا سريعاً في خطة وحدوية ترسم خطوطها العامة من وحي ما يتهددنا جميعاً في مستقبل أجيالنا ومستقبل حركة الإسلام في العالم، ومن وحي ما يتعرض له الشعب الفلسطيني... لنجعل حركة الوقت السياسي تعمل لحسابنا لا لحساب أميركا و«إسرائيل» ومن يسير في فلكها في المنطقة والعالم
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ