دخلنا المسجد عبر بوابة حديد ضخمة تحرسها ثلة من الرجال الأتراك. بعكس معظم المباني ذات الفن المعماري في برلين، المفتوحة والتي يسهل الوصول إليها، فإن هذا المسجد الكبير ذا الجلال يحيط به جدار عال ولا يمكن الوصول إليه إلا من خلال بوابات حديدية. كنت في برلين لحضور مؤتمر ينظمه المعهد الأميركي للدراسات الألمانية المعاصرة، فتبرع أحد علمائهم وهو عضو في برلمان برلين ليأخذني في زيارة للمدينة.
عندما اقتربنا من المسجد الكبير علق البرلماني البرليني: «لاحظ العلم التركي على المسجد. هل ترى علماً ألمانياً في أي مكان؟».
المؤتمر الذي استمر لمدة يوم في برلين كان موضوعه مقارنة تجارب ألمانيا والولايات المتحدة في انخراط أقلياتهما المسلمة. خلال اليوم جاهد علماء من كلا جانبي المحيط الأطلسي مع قضايا سياسية وفلسفية تتعلق بامتصاص أعداد كبيرة من الأقليات قد تختلف قيمهم السياسية والثقافية مع قيم الدول المضيفة وشعوبها.
في الوقت الذي ناقش فيها العلماء المسلمون لصالح المزيد من الانفتاح والتسامح الديني والعرقي والمعاملة المتساوية لجميع الجاليات الدينية طالب آخرون بمزيد من الاستيعاب وأصروا على أن يبذل المهاجرون الجهود لتعلم اللغات المحلية والتأقلم مع التيار السياسي الرئيسي والمعايير الثقافية.
عندما نظرت إلى المسجد الذي يرفرف عليه العلم التركي بفخار وإلى الجدار المرتفع والبوابات الحديدية والوجوه المتجهمة أدركت فجأة أن هذا ليس مسجداً وإنما هو نوع من السفارة أو البؤرة الأجنبية، بل امتداد للسياسة التركية في قلب ألمانيا. في الولايات المتحدة قد يجد المرء بالمصادفة علماً أميركياً على مسجد، ولكنك لن تجد أبداً علم دولة أجنبية. المسجد الوحيد الذي توجد عليه أعلام أجنبية هو المركز الإسلامي في واشنطن العاصمة الذي أنشأه دبلوماسيون من دول إسلامية.
تعاطفت مع عدم ارتياح البرلماني البرليني الواضح فيما يتعلق بالعلم التركي. قبل سنوات عدة صادفت مجموعة كبيرة من الأتراك في أقدس مسجد في مكة أثناء الطواف بالكعبة المشرفة. كانوا يلبسون أعلاماً تركية صغيرة على قبات قمصانهم. اعتبرت عرض الوطنية هذا في بيت الله الحرام أمراً هجومياً. الإسلام دين توحيد بشكل صارم، والوطنية في شكلها المطلق تبدأ بهدم فكرة الله تعالى نفسها. قد يكون هؤلاء الأتراك لا يعلمون أن الله تعالى لا يرى الوطنية أو العرقية أو الشعوبية.
مع تزايد الإرهاب الإسلامي في معظم الدول الغربية فإن مظاهر التعظيم للدين الإسلامي مضافاً إليها العروض العلنية بالولاء إلى دول أجنبية لا يمكن وصفها إلا بالغباء المستفحل.
المسلمون وغير المسلمين يطالبون بنشاط بإزالة العوائق بين التيار الغربي الرئيسي ومسلمي الشتات. فبينما يصر المسلمون على أن تقوم المجتمعات المضيفة بالتكيف مع والاعتراف بجميع الفروق الناتجة واحترامها، يطالب غير المسلمين - وهم عادة اليهود والمسيحيون المسيطرون - أن يقوم المسلمون بإظهار الاعتدال في هذه الخلافات. في ألمانيا، يشكل التحدي بشكل رئيسي تعلم المسلمين اللغة الألمانية واستيعاب الإسلام بمؤسسة ألمانية. في الولايات المتحدة تتعلق التحديات بصورة أهم بالتعاطف الحقيقي أو المنظور من قبل الأميركيين المسلمين لمعاداة كل ما هو أميركي في الشرق الأوسط.
المسلمون المهاجرون يأتون بثلاث تحديات مهمة إلى المجتمعات الغربية: الفروقات الثقافية والاختلافات الدينية والفروقات السياسية. في الولايات المتحدة يسهل التعامل مع الفروقات الثقافية والدينية. معظم الأميركيين يؤمنون بالولايات المتحدة كمجتمع متعدد الثقافات والتعددية الدينية ذات القيم المعمقة. بعكس أوروبا إذ تدعو النخبة إلى العلمانية بينما تتجه ضدها عند الممارسة، فإن أميركا تمارس فعلياً الفصل بين الكنيسة والدولة.
في الولايات المتحدة لا تشارك الحكومة ولا تهتم في كيفية مأسسة الإسلام أو إدارته من قبل المسلمين. بينما في ألمانيا تقوم الدولة ليس فقط بتعليم الدين في المدارس وإنما تدفع رواتب رجال الدين. ولكن هذا الأمر محفوف بالمشكلات إذ إن ألمانيا تمول المؤسسات المسيحية واليهودية ولكنها حتى لا تعترف بالإسلام.
في الولايات المتحدة، يحترم معظم الناس بل ويقدرون الفروقات الثقافية، ويعملون على حماية الحرية الدينية بغيرة. وبالتالي يمارسون التعددية الدينية على جميع مستويات المجتمع. بما أن معظم الأميركيين يأتون من دول أجنبية فإن الحقيقة أن معظم المسلمين لهم أصول أجنبية لا أهمية كبرى له.
الهوية الأميركية مفتوحة ومرنة وتتطور باستمرار. الجنسية الأميركية كذلك يسهل الحصول عليها وبالتالي فإنه يصبح المرء أميركياً من خلال القانون والروح لا يواجه عقبات ثقافية وسياسية. إضافة إلى ذلك فإن «الحلم الأميركي» هو أمر إيجابي قوي يرنو إليه جميع الأميركيين وكثيراً ما يحققونه. عند السفر إلى الخارج أشهد أحياناً بأن الإتيان إلى أميركا هو مثل الانضمام إلى قوات المارينز، إذ شعارهم «يمكنك أن تكون ما تريد أن تكونه».
في الوقت الراهن يعتبر المعوق الأساسي لوضع الإسلام في التيار الرئيسي هو العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم المسلم.
ألمانيا أمامها طريق طويل تقطعه. على رغم أنه لا يوجد عندها مشكلات في السياسة الخارجية مثل الولايات المتحدة فإن لديها الكثير من القضايا السياسية المحلية. أولاً، ألمانيا مضطرة إلى الاعتراف بالإسلام، فهي منذ عقود كثيرة مجتمع متعدد الأعراق ولكن قلة من الألمان يتخيلون ألمانيا كمجتمع متعدد الثقافات. المفكرون الألمان يفتخرون بكونهم علمانيين ولكن ادعاءً كهذا سيبقى خاطئاً طالما بقيت المؤسسات المسيحية واليهودية على موازنة الدولة الوطنية.
الهوية الألمانية متجذرة في الماضي ومرتبطة ثقافياً بالعرق والعرقية. أن تصبح ألمانياً أمر في غاية الصعوبة حتى بالنسبة إلى هؤلاء المولودين في ألمانيا ويتكلمون اللغة الألمانية بطلاقة ولكن شكلهم يشبهني ولا يشبه بوريس بيكر.
يجب أن يبدأ المفكرون الألمان بتخيل ألمانيا كمجتمع سياسي هو خليط من مكونات القيم، بدلاً من دولة وطن يرتكز على عرقية معينة. في عصر العولمة هذا، يصعب بقاء الهويات المعرفة بشكل ضيق. ألمانيا، كجزء مهم من المجتمع الدولي الذي بدأ يظهر، يجب أن تعرف نفسها من حيث القيم العالمية الحساسة للخلافات الثقافية والعرقية والدينية. يجب عليها أن تصبح نموذجا للأمم الأوروبية الأخرى مثل إيرلندا والبرتغال التي ستواجه في المستقبل القريب مشكلات مماثلة.
المسلمون الذين يعيشون كأقليات في الغرب أو في أي مكان آخر يجب أن يفهموا أن مطالبتهم بالتسامح في الخلافات الدينية والثقافية هو مطلب عادل. ولكن يجب عليهم مواءمة مصالحهم السياسية والاقتصادية مع مصالح جيرانهم الذين يطلبون قبولهم وليس مع مصالح الذين يعيشون في دول بعيدة أجنبية.
هناك مساحة للإسلام في أميركا وألمانيا. نستطيع، وسنبني مساجد أكبر وأكثر عظمة في الغرب ولكن لا مكان هناك للأعلام السعودية أو التركية أو الباكستانية في المساجد الغربية. لديهم سفاراتهم وهذا يكفي. يجب ألا يُسمح لهم باستخدام مساجدنا.
ملاحظة: زميل غير مقيم في معهد بروكينغز الاميركي ومؤلف الطرح الديمقراطي الإسلامي، والمقال ينشر بالتعاون مع خدمة «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ