العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ

منهج تحليل القديم وربطه بهدف راهن

الجاحظ بين التاريخ والأيديولوجيا ()

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تحدثت الحلقة الأولى (الجمعة الماضية) عن لجوء الجاحظ إلى تحقيب التاريخ الإسلامي إلى سبع مراحل وصولاً إلى عهده، مستخدماً منهج التأويل الأيديولوجي للحوادث بشكل يتناسب مع مواقفه السياسية المؤيدة لحركة المعتزلة. الحلقة الثانية والأخيرة عن قراءة الجاحظ لحوادث عصره.

يلاحظ من ترتيب الجاحظ لحوادث التاريخ الإسلامي وتنظيم مراحله وطبقاته أنه لم يرَ فيه سوى السفك والقتل والهدم وهدر المال والأعراض والدم باستثناء فترة الدعوة وخلافة أبي بكر وعمر والسنوات الست الأولى من خلافة عثمان. ومازال النهج المذكور ساري المفعول إلى أيامنا. فالقراءة الجاحظية للتاريخ اعتمدت منهج التحقيب وكانت محكومة بالخلافات السياسية الدائرة في عصره وطغت عليها الغايات الأيديولوجية وتصفية الحسابات مع خصومه العقائديين. فهو ما ان ينتهي من شرح رأيه بحوادث الزمان واخباره حتى ينقل المعركة فوراً من التاريخ إلى الأيديولوجيا ويأخذ بتحريض الخليفة ضد «النوابت وتابعتها هذه العوام» التي ترفض مسألة خلق القرآن.

مهما كان رأينا مخالفاً لقراءة الجاحظ لوقائع التاريخ وتقسيمه للمحطات الزمنية السابقة، فقد أدى إدخاله الخلافات السياسية والعقائدية كوجهة نظر تتحكم بالحوادث والأخبار إلى تأسيس منهج تفكير في تحليل الخلافات القديمة وربطها بغاية آنية وهدف أيديولوجي راهن. فالجاحظ المفكر لجأ إلى التاريخ لمقارعة خصومه وتأليب السلطة عليهم انطلاقاً من ربط مواقفهم بمواقف من سبقهم بطريقة تعسفية تريد استئصالهم من دائرة الصراع العقائدي الحاصل آنذاك. وبذلك أسس الجاحظ أسلوب تحليل وقراءة أيديولوجية تنظر إلى التاريخ بمنظار الراهن وتناقضاته.

لم تقتصر مواقف الجاحظ في عرض حوادث التاريخ في سياق أيديولوجي مبرمج ضمن دائرة «حزبية» اعتزالية ضيقة، بل نقل خلافاته الشخصية على مستويات الفلسفة وأهل الكتاب والشيعة. ويقسم الشيعة إلى «زيدي ورافضي». ويقرأ مختلف الصراعات على الإمامة من اجتماع السقيفة إلى عصره من منظاره الخاص ورأيه المختلف ليؤكد أخيراً «أن إقامة الإمام فريضة واجبة، وأن الشركة عنها منفية، وأن الإمامة تجمع صلاح الدين وإيثار خير الآخرة والأولى».

وبهذا المعنى يمكن القول إن الجاحظ هو من أوائل المفكرين المسلمين الذي أدخل رأيه الفلسفي (فلسفته الاعتزالية) في حوادث التاريخ وقرأ أخبار الزمان من منظار أيديولوجي متماسك حاول الإطلال على وقائع الماضي انطلاقاً من مشكلات عصره.

ولم تقتصر شدة الجاحظ وتطرفه ضد أهل زمانه على تيار عقائدي محدد بل إنه شن حملات عنيفة على بعض شيوخ الاعتزال والاتجاهات الفلسفية والإلحادية والدهرية التي تشكك بالدعوة والنبوة وخصص لهؤلاء رسائل كثيرة كانت شديدة العنف في نقض حججهم وذرائعهم. ولا يتردد الجاحظ في العتب على السلف واتهامهم بالتقصير و«ضعف العناية وقلة المبالاة» لأنهم أهملوا «الأخبار عن دلائل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأعلامه والاحتجاج لشواهده وبرهاناته». ويقول: «إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقاً في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد بعد أن كان غيرها مطلقاً غير محظور، والذين حضوه ومنعوه الزيادة والنقصان، لو كانوا جمعوا علامات النبي (ص) وبرهاناته ودلائله وآياته وصنوف بدائعه وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم وبحضرة العدد الكثير الذين لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل والعدو المائل، لما استطاع اليوم (عصر الجاحظ في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني والنصف الأول من القرن الهجري الثالث) أن يدفع كونها وصحة مجيئها لا زنديق جاحد ولا دهري معاند ولا متطرف ماجن ولا ضعيف مخدوع ولا حدث مغرور، ولكان مشهوراً في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكن استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غبي يستمليه وفي حدث يموّه له، ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وإغمارنا لم تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز والاحتجاج للواضح».

ويرى الجاحظ أنه ربما في الأمر حكمة «فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل نفسهم ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه والاحتجاج لنبيه (صلى الله عليه وسلم)، وليجري هذا الخير على أيديهم كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم، لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء، ولئن يجعل فضله مقسماً بين جميع الأولياء، وإن كان الأول أحق بالتقديم والآخر أحق بالتأخير للذي قدموا من الاحتمال وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه. والأصل أحق بالقوة من الفرع، وهم السابقون ونحن التابعون. وهم الذين وطأوا لنا وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار ومنحونا روح الكفاية...».

ويشير عتب الجاحظ على الأسلاف إلى فضاءات ثقافية في عصره إذ كثر التشكيك وازداد الطعن بالروايات والأخبار المنقولة في فترة النزول وبداية الدعوة. ويرى أنه لو أقدم أسلافنا على العناية بالأخبار وجمعها وتدقيقها كما حصل عندما اهتموا بآيات القرآن وأحاديث الرسول لما حصل ما يحصل «في آخر الزمان». ويعتقد الجاحظ أن أسلافنا كان بإمكانهم أن يفعلوا الأمر نفسه لولا الإهمال. فالذين «جمعوا الناس على قراءة زيد دون أُبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود» كان بإمكانهم أن يجمعوا الناس على روايات صحيحة وأخبار واضحة.

ويختصر الجاحظ رأيه في التاريخ انطلاقاً من تعريفه للخبر «أن الخبر قد يكون أصله ضعيفاً ثم يعود قوياً ويكون أصله قوياً فيعود ضعيفاً، للذي يعتريه من الأسباب ويحلّ به من الأعراض من لدن مخرجه وحصوله إلى أن يبلغ مدته ومنتهى أجله وغاية التدبير فيه والمصلحة عليه...». ويضيف «ولكن الناس آثروا الكتمان واتفقوا على النسيان». وينتهي إلى تأييد الأخذ بالخبر (أخبار السلف) بقوله «إنا لم نزعم أن الأخبار حجة فيحتجوا علينا بها، وإنما زعمنا أن مجيئها حجة، والمجيء ليس هو أمر يتكلفه الناس ويختارونه على غيره...». ويعلن أن وجود الإسلام وفتوحاته خير دليل على حجته وصحة أخباره «ذلك أن الإسلام لم يترك ملكاً بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام إلا أزاله عنه وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها ومعاقل يأوي إليها أو طرده إلى خليج منيع لا يقطعه إلا السفن».

عاش الجاحظ إذاً أبهى حالات التقدم وتعايش مع أشد لحظات الصراع الفقهي بين المتكلمة وأهل الحديث وتعرف عن قرب على تاريخ ذاك الخلاف واطلع على تفاصيله الداخلية. لكن مشكلة الجاحظ أنه ورث الانقسام وحاول اللعب على تناقضاته مستخدماً أحياناً أسلوب التحريض والشماتة بخصومه إلى أن انقلب الدهر عليه وبات في موقع الدفاع بعد أن قاد الهجوم في فترات متعددة. فالجاحظ في النهاية ابن بيئته وعصره حتى عندما استخدم الأخبار والوقائع والتواريخ لخدمة أغراضه الأيديولوجية ولغاياته الآنية. فهو من جهة وريث الانقسام وهو من جهة أخرى أحد أبطاله وضحاياه. فالانقسام لم يبدأ من طرفه بل كان هو أحد نتائجه أحياناً وأحد أدواته أحياناً أخرى.

الخلاف على السنة والحديث بدأ بين المسلمين الأوائل بعد الانقسام السياسي في موقعة صفين وخروج الخوارج على الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). وتطور علم الكلام على يد طائفة الخوارج التي أخذت بالقرآن الكريم وردت الأحاديث النبوية. وانقسم الخوارج إلى طائفتين واحدة تكفر المسلمين وتستحل دماءهم وأخرى ترفض تكفير أو استحلال دماء مخالفيهم. وبعد الخوارج جاء المعتزلة (من أهل السنة) واستخدموا علم الكلام وطوّروه على قواعده الخمس المعروفة (التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وانقسم المعتزلة إلى فرقتين واحدة رفضت شتم الإمام علي (إبراهيم النظام وبشر بن المعتمر وبعض المرجئة) وأخرى ساوت بين الخليفة الراشدي الرابع وخصومه (ضرار وأبوالهذيل ومعمر).

تشكلت كل تلك الانقسامات السياسية - الفقهية على أساس سابق بدأ في عصر الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبدالعزيز عندما أجاز كتابة الأحاديث وتدقيقها والأخذ بها على رأس القرن الهجري الأول في وقت كان واصل بن عطاء ( - هجرية) قد اعتزل حلقة شيخه الحسن البصري وأسس حركة الاعتزال. واستمر الخلاف بين فريق يأخذ بالحديث وفريق يرفضه مشككاً بصحته إلى أن كان عصر المأمون ( - هجرية) فانحاز للمعتزلة ومنع الأحاديث واضطهد أهل السنة وهو أمر تابعه الخلفاء العباسيون إلى أن جاء عهد المتوكل ( هجرية) فسمح بالأحاديث وأجاز اعتمادها.

عاصر الجاحظ تلك الفترة العصيبة من المأمون إلى المتوكل وتعايش مع الصراع ضد أهل الحديث فوقف مع المعتزلة ضد تيار الإمام أحمد بن حنبل ثم عاش الصراع المضاد ضد المعتزلة وانتعاش خط أهل الحديث. وأهمية الجاحظ أنه كان على اطلاع على خلفيات الصراع وكان أيضاً على صلة به بسبب صلاته مع الخلفاء.

هذا الصراع بين رفض الإمام أحمد خط المتكلمة وعلم الكلام وتمسكه بالأحاديث، وبين رفض المعتزلة الحديث وأهله اشتد بعد رحيل الجاحظ. واستمر الأمر بين أخذ ورد إلى أن حسم الأمر المعتزلي أبوالحسن الأشعري (توفي سنة هجرية) عندما انشق عن الاعتزال وكتب ضدهم وعقد تسوية بين أهل الكلام وأهل الحديث فأسس ما يعرف بالمنهج الأشعري (الأشاعرة) الذي يأخذ بالقرآن على أسلوب المحكم والمتشابه (المعتزلة) ويأخذ أيضاً بالأحاديث. وانتهت المشكلة بحل وسط بين التيارين الأمر الذي كان له تأثيره الفكري لاحقاً إذ انتقل علم الكلام إلى أهل الحديث، كذلك بدأ المتكلمة يأخذون بالأحاديث. وبذلك دشن الأشعري مدرسة جديدة في الفقه الإسلامي كانت بداياتها الأولى بعد نحو سنة على وفاة الجاحظ

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً