حين قرر الشيخ الطهطاوي العودة إلى مصر بعد انتهاء فترة الدراسة في باريس (خمس سنوات) حاملاً معه انطباعاته وتأملاته وبعض الترجمات والمنقولات من كتب «فلاسفة الأنوار» كانت أوروبا في مجال تطورها العمراني تجاوزت معرفياً تلك الأفكار. فالقارة التي اتسع مجالها الجغرافي عالمياً شهدت سلسلة تراكمات أدت إلى تحولات نوعية في القرن التاسع عشر. فهذا القرن سيكون له تأثيره المركزي في السياسة الدولية وسيؤدي دوره التدخلي إلى انقلابات في التفكير الفلسفي وإنتاج مدارس ايديولوجية متفاوتة في مناهجها ومتنوعة في توجهاتها العامة. وهذه المدارس الأوروبية التي نهضت في القرن التاسع عشر هي التي ستلعب دورها في تكوين الوعي الايديولوجي للنخبة العربية (المسلمة) في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
الأفكار التي حملها معه الطهطاوي ستكون مفيدة في تشكيل بدايات وعي مفارق للعلوم الإسلامية (القرآنية) ولكنها لن ترتقي في مستوى تأثيرها القطعي على أجيال من النخب العربية مثل تلك التي ستتعرف عليها أوروبا خلال وبعد عودة الطهطاوي إلى مصر.
فولتير ومونتسكيو وروسو أصبحوا من ماضي أوروبا. وأفكارهم لم تعد تطرح الجديد فهي تحولت إلى كلاسيكيات قديمة في قارة بدأت تغزو العالم وتنقل منه ما هي بحاجة إليه من خامات ومواد أولية لتوسيع مجال رقعتها الصناعية. وأوروبا آنذاك التي اجتاحت معظم العالم (اكتشافات جغرافية، غزوات عسكرية، هجرات سكانية إلى أميركا واستراليا ونيوزيلندا) باتت على احتكاك مباشر مع ثقافات الشعوب وحضاراتها وأخذت تنقل منها تلك الكتب والأفكار والفلسفات والمواد الطبيعية والنباتات والحشرات والحيوانات لتجري عليها البحوث والدراسات المقارنة (الاستشراق) في جامعاتها وتقوم بتفكيكها وتحليلها في مختبراتها. فالفلسفة اقتربت كثيراً من العلوم والمكتشفات الجغرافية (الطبيعية) والتطورات الاقتصادية (الصناعية) والاجتماعية (علوم البيئة والإنسان).
تأثر الطهطاوي بأفكار فلسفة القرن الثامن عشر بينما كانت أوروبا دخلت في مرحلة تأسيس فلسفة القرن التاسع عشر. والأفكار التي حملها الشيخ «التقدمي» معه إلى مصر كانت جديدة لدولة الباشا ولكنها أصبحت قديمة لقارة تعصف بها المتغيرات إلى درجة الجنون. فأوروبا الكونية آنذاك دخلت في فترة إعادة إنتاج صورتها قومياً. وبين المدى العالمي والسوق القومية تضاربت المدارس الأوروبية ونهضت فيها فلسفات لم يكن باستطاعة الشيخ التقاط بداياتها الأولى.
فلسفات أوروبية جديدة
عاد الطهطاوي إلى مصر في السنة التي توفي فيها الفيلسوف هيغل (). وبعد عودته سينشغل الشيخ في أمور الدولة ولن يتابع تلك التطورات التي ستشهدها أوروبا على الصعيدين العمراني والمعرفي. فآنذاك كانت أفكار فيخته (توفي ) القومية أخذت تشق طريقها الفلسفي المستقل. فتلك الرسائل التي وجهها فيخته إلى «الأمة» داعياً فيها إلى وحدة ألمانيا وإلغاء المقاطعات التي تقوم على ملكيات عقارية إقطاعية لاقت رواجاً في لحظة نهوض بروسيا «القومي». فأفكار فيخته التي جمعت بين الثنائية والجدل والمثالية والواقعية أثمرت تصورات عن قيام دولة صناعية/ تجارية منغلقة قومياً تعتمد سلطتها على إنتاج سوقها المحلية.
هذه الأفكار سيتلقف بعض جوانبها تيار يساري أطلقت عليه تسمية عامة: الهيغليون الشباب. هذا التيار الهيغلي اليساري سيكون له شأنه الكبير في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر. ومنه ستتفرع اجتهادات ايديولوجية فلسفية سترسم لاحقاً الحدود المعرفية بين مدارس أوروبية شتى. وفي ضوء هذا التيار ستتفرع مجموعات مختلفة مثالية ومادية وقومية وعالمية واجتماعية وطبيعية وصولاً إلى تكوين مناهج بحثية في الإلحاد.
الإلحاد في القرن الثامن عشر وحتى فترة وجود الطهطاوي في باريس كان مجرد موقف شخصي أو رأي خاص في طبيعة الماورائيات. فالإلحاد لم يكن تحول بعد من اجتهاد شخصي إلى نظرية في المعرفة والتكوين أو خطة بحث تاريخي في الأديان وصلتها بالطبيعة والاجتماع. كانت هناك إرهاصات فكرية عامة ولكنها لم تتشكل بعد في سياق فلسفي مبرمج يقرأ تطور الزمن في سياقات هندسية أو جدلية تفصل الإنسان عن الله وتعيد ربطه بالطبيعة والاجتماع.
هذا التيار الإلحادي لم يتشكل دفعة واحدة كذلك لم يتكون فلسفياً في إطار منسجم وموحد. ولكنه جاء في لحظة تاريخية شهدت فيها أوروبا تحولات فلسفية نوعية وضعت الإنسان في موقع «القداسة». فالمقدس لم يعد ما هو وراء الطبيعة وإنما بات من نتاجاتها الثقافية والاجتماعية.
لم يأتِ هذا النوع من التفكير الفلسفي من خارج سياق التطور. فأوروبا التي غزت معظم العالم أخذت بتحويل ثرواته إلى داخل دولها. وهذا أدى بدوره إلى تشكيل طبقة وسطى (جديدة) خارج دائرة هيمنة الدولة والمؤسسات التقليدية والطبقات الاجتماعية السابقة على التقدم الصناعي. فقبل الثورة الصناعية كانت معظم كادرات الدولة تأتي من طبقة النبلاء الأرستقراطية أو من المؤسسات الدينية. ومعظم فلاسفة أوروبا قبل القرن الثامن عشر تساقطوا من أمكنة اجتماعية تتمتع عائلاتها بوضع مادي مريح. ومن هذه المؤسسات (الكنيسة) أو طبقة النبلاء تشكلت تلك الكادرات ورفدت الدولة والمعاهد والجامعات والمختبرات بالخبراء والمهندسين والعلماء والأساتذة والأطباء... وأيضاً الشعراء والفلاسفة وقادة الجيوش والبرلمانات والوزراء ورؤساء الحكومات وغيرها.
في القرن التاسع عشر بدأت القارة تشهد خروج قوى اجتماعية من دوائر أخرى أسهمت لاحقاً في تشكيل ايديولوجيات مضادة للدولة وضد المؤسسات التقليدية الموروثة. وهذه الايديولوجيات التي شهدت طفرة سياسية نوعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر استندت في تصوراتها إلى تلك المدارس الفلسفية التي بدأت بالتشكل في مطلع القرن التاسع عشر. فبعد كانط وفيخته وهيغل سيظهر سورين كيركغارد (توفي ) ويبدأ بنقد أفكار هيغل واضعاً الأسس المنطقية للفلسفة الوجودية التي سيكون لها أثرها البارز في التأثير على التيار الوجودي في القرن العشرين. كذلك ستظهر كتابات اوغست كونت (توفي ) وخصوصاً دروسه في «الفلسفة الوضعية» التي صدرت في العام وسيكون أيضاَ لها دورها في تأسيس تيار اجتماعي (وضعي) سيقوده لاحقاً إميل دوركايم. وأيضاً ستظهر فلسفة ارثر شوبنهور (توفي ) الذي تأثر بالصوفية الشرقية وفلسفة «النيرفانا» التي تقول بالسكينة المطلقة وتركز على النزعة الإرادية للإنسان. وهذه المدرسة التي انتقدت كانط سيكون لها أيضاً تأثيرها في تشكيل فلسفة نيتشه التي ستترك انعكاساتها السلبية في نشوء اتجاهات تطهرية تؤمن بالقوة والتفوق العرقي (النازية).
إلى جانب هؤلاء ستنهض أيضاً سلسلة تيارات فلسفية/ سياسية واجتماعية/ اقتصادية تقوم على البحث التجريبي والقراءة التاريخية والتأمل الجدلي في واقع الإنسان. ففي الفترة نفسها سيصدر كتاب لودفيغ فيورباخ (توفي ) الذي انتقد فيه الفلسفة الهيغلية. وسيكون لهذا الكتاب الذي صدر في العام تأثيره الكبير على التيار الهيغلي الشاب (اليساري) وخصوصاً ماركس، الذي سيتأثر بأفكار فيورباخ وسيتحول إلى مرجع كبير للتيار المادي ونظرته إلى الكون والنشوء والارتقاء. وسيظهر في الفترة نفسها جون ستيوارت مل (توفي ) وهو من دعاة الفلسفة الوضعية تأثر بأفكار هيوم وبركلي وكونت. فهذا الفيلسوف السياسي الذي انتقد منهج الاستنباط داعياً إلى منهج الاستقراء سيكون له تأثيره المميز في تكوين مدرسة في العلوم السياسية. وهذه المدرسة تكونت في سياق تطور المبدأ النفعي الذي وضعه بيثنام وتأثرت بدورها في نظريات الاقتصاد السياسي وما صدر بشأنها من كتابات تتصل بأفكار جديدة قام بتأسيسها ديفيد ريكاردو عن نظرية «القيمة» أو مالتوس عن نظرية «السكان».
إضافة إلى الفكر السياسي ونظريات الاقتصاد السياسي تشكلت في الفترة نفسها اجتهادات جديدة في علم التطور (الطبيعي/ الاجتماعي) وتحديداً تلك الاكتشافات التي شرحها تشارلز داروين (توفي ) في كتابه «أصل الأنواع». فالنظرية الداروينية التي تأسست بداياتها في العام سيكون لها شأنها في تطور علوم الاجتماع البشري وستترك أيضاً بصماتها الايديولوجية على تيار من النخبة العربية في مطلع القرن العشرين.
وفي الفترة نفسها ستتشكل أيضاً الفلسفة الماركسية التي سيكون لها شأنها الخاص على تيار من المثقفين العرب في القرن العشرين. فماركس (توفي ) حصل على دكتوراه في الفلسفة في العام وسيتأثر في بدايات عمره بأفكار هيغل ومنهجه الديالكتيكي. ولكنه سيقوم لاحقاً بنقده تأثراً بفلسفة فيورباخ المادية. كذلك سيطوّر بعدها منهجه ليدمج بين فيورباخ (التفسير المادي للتاريخ) وهيغل (المنهج الجدلي في التفكير) مستفيداً من كل الكتابات الفلسفية والسياسية والاقتصادية التي صدرت في عهده.
كل هذه الأفكار والمنهجيات والاتجاهات المتمردة على النسق الفلسفي السابق والناقمة على المؤسسات الرسمية والفكر الأكاديمي سيكون لها تأثيرها اللاحق في تشكيل الوعي الايديولوجي للنخبة العربية. فهؤلاء ستظهر كتاباتهم وأفكارهم ومدارسهم في تلك المنقولات والترجمات التي ستبدأ «النخبة» في التماهي معها في القرن العشرين وسيكون لهم تأثيرهم القوي وأكثر من أفكار فولتير ومونتسكيو وروسو. ومعظم تلك المدارس الفلسفية الحديثة تأسست بداياتها حين كان الطهطاوي في باريس، ثم استكملت نموها وتطورت لاحقاً بعد عودته الى القاهرة التي تصادفت في السنة التي توفي فيها هيغل.
عودة الشيخ
عاد الشيخ إلى مصر حاملاً معه من باريس تلك الأفكار «القديمة» التي بدأت أوروبا في تجاوزها. ولكن هذه الأفكار المنقولة عن قوانين أو دساتير أو نصوص فولتير ومونتسكيو وروسو كانت «جديدة» على مصر وأعجبت الباشا الذي أخذ يعيد النظر في بناء دولته بعد تلك الضربة العسكرية التي حطمت اسطوله البحري بالقرب من اليونان.
فور عودة الشيخ وبعثته تسلم التلامذة مواقعهم في دولة الباشا. فالباشا أراد من خلال إرسال المجموعات ل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ