الكويت التي غيرت مسار حياتي تمثل الرحم الذي ولدني من جديد إلى انطلاقة جديدة إلى رحم وطني البحرين، لطالما كانت صدراً حنوناً، وقاسياً وودوداً من حين إلى آخر، بيد انها هي التي خطت لي مستقبلا مشرقا منحني شهادة أكاديمية وحياتية أهلتني باقتدار لكي أخوض دروب الحياة الصعبة. في رحابها حلقت كفراشة في أركان جامعتها المترامية الأطراف التي كانت تموج بنشاط حيوي منقطع النظير للحركة الطلابية العربية، هناك عرفت مبادئ السياسة التي تحاول ناصحة وزيرتنا للتنمية الاجتماعية أن ننزه أنفسنا عنها وكأنها مرض معد.
في الكويت مارست حرية التعبير عن رأيي من دون خوف أو وجل، في الوقت الذي ساد في وطني الاستبداد والقهر وتكميم الأفواه والعقول. هناك سبحت بين أرفف مكتباتها وما فيها من نفائس من مختلف الدوريات وكتب المعرفة، تلك الأماكن النادرة التي تستقر في قلبك وتفتح لك أبواب جنات العلم والمعرفة. فيها تعرفت على مختلف التيارات السياسية والفكرية وما تفاعلت معه من بطون كتب الفلسفة والتاريخ. هناك تربيت ونهلت كما غيري من عطشى الحرية والمعرفة قدر المستطاع، فوطننا كما أذكركم ثانية، كان يرزح وقتها تحت سياط القمع والتجهيل وقانون أمن الدولة. لذلك فإن عودتي إليها اليوم زائرة ومراقبة تبحث عن خبايا زمن الكويت الحديث وعرسها الديمقراطي، لاشك يغمرني بشعور من الغبطة والامتنان.
الكويت تغيرت اليوم كثيراً في ملامحها، تحدثت وتمددت أبنيتها وتعددت مجمعاتها التجارية المكيفة لتتلاءم مع قسوة الطقس وثقافة الاستهلاك الخليجية، تماماً كما يحدث في بقية المدن الخليجية، فأموال النفط كما الفانوس السحري تدعكه فتأتي المعجزات وما لا يخطر على البال. تغير أهلها وتغيرت نظرتنا إليها. اليوم، الجميع منا نضج، والنضج الكويتي تلاحظه في مضامين الخطابات السياسية والاجتماعية، وفي التعاطي ما بين القوى السياسية الدينية منها والديمقراطية والليبرالية بشتى تلاوينها. فالكويت لم يحكمها الاستبداد كما حدث في بعض دول خليجية وعربية أخرى، ما أثر في سلوك المواطن وعلاقته المتوترة لفظاً والعنيفة جسداً في غالبية الأحيان، فهذا ما يميز الكويت عن بقية دول القهر والاستبداد.
فرحة النساء ولكن!
العملية الانتخابية الكويتية عمرها نصف قرن، والمرأة الكويتية كمثيلاتها الخليجيات سلبت حق المشاركة السياسية، صحيح انها حصلت على حقها السياسي للتو، بيد ان صوتها كان دائم الحضور، وقد تهيأت بسرعة البرق والفرح لممارسة دورها حضوراً وتفاعلاً في جميع مراحل العملية الانتخابية الأخيرة. صحيح أن مستويات الوعي متفاوتة وتحكمها الثقافة السائدة المتمثلة في القيم والاتجاهات والأعراف والتقاليد القبلية، بيد ان المترشحات الثماني والعشرين اتسمن بالجرأة وتمتعن بحضور وخطاب متميز، بعضهن يدرك بالضبط ماذا يريد، وإلى أين يتجه.
ومن الصحيح أيضاً أن بعضهن لا يدرك أبعاد الصراع الدائر بين الحكومة والمعارضة، إنها أول مشاركة لهن، ولاسيما أنهن أجمعن على ضرورة الخروج من مجالات البيوت والخيام ودواوين شاي الضحاوي النسائية في يوم الاقتراع، لم تصل أي منهن إلى مجلس الأمة، تماماً كما حدث للبحرينيات. لا بأس... غير ان الصوت الأعور (المنفرد الذي يصوت لشخص واحد عوضاً عن اثنين من الدائرة)، وأصوات النساء وباعتراف المراقبين والمحللين هي التي حسمت نتائج المعركة الانتخابية الساخنة لصالح ائتلاف المعارضة، إذ قوته ودعمت من موقعه في عملية الصراع السياسي.
تحدثت لي إحدى الناشطات التي تقود إحدى الحملات الانتخابية في مركز نسائي «بالدعية» لاحظت حماسها ودعايتها لصالح مرشح ما ترشح في الدائرة نفسها، سألتها عن رأيها في مشاركة المرأة لأول مرة في الانتخابات، فأجابت: العمل السياسي لا يناسب المرأة وصعب عليها ويأتي على حساب عيالها وعائلتها. ابتسمت بتعجب وسألتها ثانية: إذاً لماذا تشاركين في حملة الدعاية لهذا المرشح، لماذا لا تجلسين في بيتك معززة ومكرمة بدل البهدلة كما تقولين؟ همست في أذني قائلة: أنا أعمل في هذه الحملة بمقابل مادي.
بحرينية تصوت؟
في مركز آخر، التأمت حولي مجموعة من الشابات الحسناوات اللواتي يرتدين زياً موحداً لمرشح آخر، قائلات: تكفين خالتي لا تنسي تعطي صوتج (صوتك لفلانة). قلت لهن: المعذرة أنا بحرينية، لا يحق لي التصويت. رددن بصوت واحد: «اشعاد»، بمعنى «لم لا»!
إنها حقائق صحيحة عايشتها بنفسي، فالأموال التي ضخت في الحملات الانتخابية شيء لا يصدقه العقل، لقد كان بعضه بعيداً تماماً عما اصطلح على تسميته وعياً سياسياً. وما هو صحيح أيضاً ما ذكرته لي مقترعة أخرى حضرت للتصويت في أسخن الدوائر الانتخابية في مقرها النسائي بالضاحية الدائرة الثانية قائلة: جميع المترشحين أقوياء على رغم صغر حجم هذه الدائرة، والكل مؤهل للفوز، بيد ان ما سيحسم اتجاهات أصوات المقترعين هي علاقة الأهل والمعارف «والقبيلة»، إذ لهم تأثير كبير على اختيار المترشح ومنحه الصوت، على رغم إقرارها بأهمية أن يكون هناك وعي سياسي وثقافي متقدم لدى المقترعين من النساء أو الرجال يعتمد معيار الكفاءة والنزاهة في التصويت للمرشح. سألتها هل أصورك؟ تمنعت قائلة: بمفردي لا، إذا كان معك والأخريات نعم.
العرس الديمقراطي
لذلك، لا غرابة البتة، إن تحققت نبوءة الكاتب محمد الرميحي أثناء فرز الأصوات، وكذا بعض الكويتيات اللواتي استطلعت رأيهن أثناء جولاتي على المراكز الانتخابية بأيام بشأن حظوظ وصول امرأة لمجلس الأمة، إذ جاءت كل التوقعات بأن الحظوظ تكاد تكون معدومة، والسبب يكمن في الأعراف والتقاليد ونظرة المجتمع للمرأة، فضلاً عن رؤية المرأة لذاتها كإنسان مطيع وتابع لولي الأمر والمرجعية الدينية وأفراد الأسرة من الرجال والقبيلة، وهذا ما ينذر بتوقعات بدء المطالبات النسائية الكويتية للأخذ بنظام الحصص النسائية (الكوتا).
على رغم عودة الكويت سريعاً لإحياء زفة عرسها الديمقراطي بعد حل مجلس الأمة أخيراً، وبعد أن منحت الكويتية كامل حقوقها السياسية، فضلاً عن الانتفاضة الشبابية البرتقالية وما حملته في جعبتها من شعار ثابت (نبيها )، أي نريد تقسيم الكويت إلى دوائر انتخابية فقط، فهذه الحركة أذهلت وحيرت المراقبين السياسيين والمحللين الاجتماعيين، ولاسيما أن خطورتها ذات علاقة بنسبته في المئة من المواطنين الكويتيين هم من الشباب والشابات.
برلمان بـ ملايين دينار
أقول على رغم كل تلك المظاهر فإن الحقائق التي أدلى بها عبدالله النيباري في ندوته الانتخابية الختامية «الإنقاذ قبل فوات الأوان» جاءت تعبيراً صارخاً عن وضع سياسي متأزم يأتي على قمته الفساد، إذ قال: «لماذا نريدها مع الشباب، لأن المادة () من الدستور تصرح بأن نظام الحكم ديمقراطي، وعليه كيف يتمسك الحكم بالديمقراطية ويحل مجلس الأمة متى شاء؟ كيف يدخل طرفاً مباشراً في الحملات الانتخابية عن طريق شراء الأصوات، إذ وصل سعر الصوت ( د. ك). هل هناك من يدفع ( ملايين د. ك) فقط من أجل كرسي برلماني؟ إلا إذا كان له هدف ما في الحصول على مكاسب غير مباشرة تأتي من النصب والاحتيال، وتمويل الصندوق الأسود، إضافة إلى التراجع والانقلاب على الوثيقة الدستورية للعام ، وتزوير الانتخابات، مؤكداً في الوقت ذاته أن العملية الانتخابية لا تعني التدريب، إنما اتخاذ القرار، من أجل بناء الكويت العصرية الناهضة اقتصادياً وعلمياً وثقافياً، وتطهيرها من أوبئة الفساد المتسببة في تعطيل الدستور والبناء. فهناك استنزاف للثروة الوطنية، ونهب ومصادرة لحق الأجيال المقبلة. إنها مسئولية مؤسسات المجتمع في المراقبة والمحاسبة. لقد آن الأوان لإنقاذ الكويت بالتوافق، ومجيء حزب الفساد سيؤدي إلى زيادة الفوضى، ومجيء كتلة برلمانية تمثل إرادة الشعب تعمل على الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتحسين ظروف التعليم والصحة والوظائف».
ودعا النيباري إلى الركون إلى معيار اختيار الأصلح والأكفأ جدارة وقدرة على خدمة الناس والدفاع عن مصالحهم، وعدم الركون إلى تأثير القبيلة أو المال السياسي والرشوة.
هل كان له ما أراد؟ طبعاً لا، فمن أسف العلاقات القبيلة والأهلية التي طوعت أصوات النسوة والأقرباء، هي التي حسمت وأوصلت غالبية من ائتلاف المعارضة إلى مجلس الأمة، والمال السياسي بدوره أوصل بعض عناصر الحكومة والمتنفذين، ما يبشر بمعركة سياسية لاحقة ستدور رحاها خلال الأسبوعين المقبلين، حول تعيين أعضاء الحكومة الجدد ورئيس مجلس الأمة الجديد، واحتمالية أن تسود التفاهمات أو متابعة سلوك التطنيش أو العناد بحسب وصف أحد الساسة الكويتيين في العلاقة ما بين المعارضة والحكومة.
«هاذي الكويت صل على النبي، هاذي الكويت صل على النبي، هي ديرتنا، هي ديرتنا وفيها ايلي نبي»، أغنية لطالما رددناها مع الكويتيين في أفراحهم عند فوز فرقهم الرياضية في مباريات كرة القدم الخليجية أو العالمية، إذ غدت جزءا من أغاني التراث الكويتي المحببة إلى النفوس، تماماً كما هي عادة نصب الخيام في المناسبات. نصبت الخيام الانتخابية المتنوعة المشارب والاتجاهات وانتشرت في جميع الضواحي القريبة من الدوائر الانتخابية، واختلطت الشعارات التي تصدرت مداخلها بأهداف الحملات الانتخابية التي عبرت بوضوح تام عن عمل احترافي لفرق العمل الانتخابية الإعلانية والدعائية المتخصصة والمتفرغة بهدف تنفيذ برامج الحملات الانتخابية، طبعاً بعض ذلك الحماس والنشاط لم يكن عملا تطوعياً أو خيرياً، أو مستندا إلى قناعات سياسية، إنما كان بسبب التوجهات الدينية أو السيولة المالية التي تم ضخها وبرزت قدرتها في تمييز حملة انتخابية عن أخرى. هذا الوضع لا يستهان بتأثيره وانعكاساته على واقع مجتمعنا البحريني المحدود الدخل، والذي تتقاذفه التيارات الايديولوجية الدينية والذي مايزال يعتمد على فكرة النشاط التطوعي والقناعات السياسية والدينية كوقود محرك لقيادة وتسيير الحملات الانتخابية والترويج لشعاراتها وبرامجها
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1399 - الأربعاء 05 يوليو 2006م الموافق 08 جمادى الآخرة 1427هـ