التقطها الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، في سنوات القحط والفقر والشقاء. شاهدها لأول مرةٍ وهي طالبةٌ تشارك في تمثيل مسرحيةٍ مدرسية، فأُعجب بها، وأطلق عليها لقب «التفاحة الزرقاء». وهكذا عاشت في ظل الزعيم، تصعد وتصعد وتصعد، حتى أصبحت من أخطر الشخصيات التي ساهمت في صناعة التاريخ الصيني الحديث، حين قادت ما يسمى بـ «الثورة الثقافية».
كانت منسجمةً مع نفسها، لكن الزمن لا يدوم، ولابد للتاريخ من دوراتٍ وجولات، وهكذا وجدت نفسها خارج السلطة وصنع القرار بعد أن غيّب الموت زوجها. عاماً قضتها في قلب الحدث والتأثير والفعل، وعادت إلى الظل.
وقُدّر لها الخروج من الظل مرةً أخرى، ولكن هذه المرة على أساس تقديمها إلى المحكمة لمحاسبتها على أفعالها السابقة، فعندما تتغيّر الأزمنة، تتغيّر القيم وتنقلب الموازين. ووجدت نفسها تقف في القفص متهمة بـ «فظائع» الثورة الثقافية، والإعلام الصيني ينشر وقائع محكمة «عصابة الأربعة». وفي الجلسة العلنية الأخيرة، شرعت زوجة ماو تخلع ملابسها قطعةً قطعة، وسط ذهول القضاة والمصورين والحضور.
البعض اعتبرها خطوةً احتجاجية، والبعض فسّرها رد فعلٍ في مواجهة فعل لم تحتمله أعصاب امرأة تعيش خارج نطاق الجاذبية، والبعض اعتبرها امتداداً لتراث الماضي (الثوري في هذه الحال). على انها في الأخير ظلت على قناعاتها السابقة، وفية لمبادئها، لم تتغير أو تتلون أو تتقلب مع تقلب الأزمنة. من هنا احترمها الكثيرون حتى ولو تعرت أمام القضاة والمصورين!
كان من الممكن أن يشهد العالم سيناريو آخر، وهو أن تتحوّل إلى داعيةٍ لمبادئ العصر الجديد، وتنقلب على المبادئ التي آمنت بها ودافعت عنها أكثر من عاماً، واشتركت مع زملائها المتهمين الآخرين في تشجيع وتبرير قتل وتهجير وسجن الآلاف من أبناء الشعب الصيني.
لم تتغيّر التفاحة الزرقاء بين عشيةٍ وضحاها، ولم تقبل أن تتعيش على لحم ماو، بعد أن نبت لحم أردافها من خيرات ماو. التفاحة الزرقاء لم تتحوّل في طرفةِ عينٍ من ثورية يسارية متطرفة إلى يمينية متطرفة.
تفاحة ماو، لم تخادع أحداً من الشعب، فلم تقدّم نفسها في ثوبٍ مخرّقٍ لا تستره الإدعاءات، فالشعب لا ينسى مواقفها خلال عشرين عاماً من معاداة حرية التعبير إلى داعيةٍ متبتلةٍ في صومعة الحرية.
ثم إن ذاكرة الشعوب لا تنسى تراث عاماً من الكتابة عن زحمة المرور والأشجار، والوقوف ضد تطلعاته المشروعة في غدٍ مشرق، وربط حركته المطلبية بجهاتٍ خارجيةٍ ومؤامراتٍ دولية، وتشويه دعاة الإصلاح ومحاولة إسقاطهم باتهامهم في نواياهم. كما لا ينسى تبسيط النزعة الأصيلة لدى الشعب نحو العدل والمساواة، وحصر هدف الإنسان في الحياة في الأكل والشرب والنوم مثل البهائم... وفي الأخير تسوّق نفسها في ثوب جان دارك
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1399 - الأربعاء 05 يوليو 2006م الموافق 08 جمادى الآخرة 1427هـ