طموح المرأة العربية بدخول عالم السياسية من باب «البرلمانات» يفتح النقاش على أسئلة تتصل بظروف الاجتماع ونسبة تطور الوعي في بيئات ثقافية لاتزال منغلقة على الحلقات التقليدية الضيقة.
الطموح في حد ذاته مشروع لأنه أساساً يعيد الاعتبار لدور معطل للمرأة التي تشكل في أقل تقدير نصف المجتمع. إلا أن بين الطموح المشروع والواقع المنغلق على «حداثات» مستوردة أو مزروعة كالجزر المعزولة في محيط من العلاقات الاجتماعية التي لم ترق إلى حد الوصول إلى «الدولة» مساحة زمنية لابد من اجتيازها. فالزمن لاشك في أنه قادر على التكفل بإزالة الكثير من الحواجز والعقبات. وحتى تكون حركة الزمن متوازنة مع نسبة نمو حركة الاجتماع لابد من الاطلاع على المسار العام الذي حققته المرأة في أوروبا مثلاً تمهيداً لدخولها البرلمان وقيادتها للسلطة السياسية. فالمرأة في أوروبا لم تقفز على درجات السلم الاجتماعي للتطور، كذلك لم تخرج فوراً من البيت لتحتل موقعها النيابي في البرلمان. فالبرلمان في أوروبا هو هيئة تمثيلية تعكس الواقع الاجتماعي وليس مجرد «ديكور» سياسي لهيئة الدولة. وهذا الفارق بين النمطين يعطي صورة مضادة عن ذاك الطموح المشروع.
في بريطانيا مثلاً، وهي من أعرق الدول البرلمانية، كانت المرأة غير مسموح لها بالتصويت إلى مطلع الحرب العالمية الأولى. وحين اندلعت الحرب وذهب الرجال إلى جبهات القتال اضطرت الدولة إلى السماح للمرأة بالعمل في المصانع لإنتاج مواد ضرورية ويحتاجها الجيش في معاركه الدفاعية. وهكذا دخلت المرأة عالم الإنتاج الحربي (أسلحة وذخيرة، مواد غذائية، ملابس) وهي كلها عناصر مهمة للصمود.
بعد سنوات توقفت الحرب وعاد الرجال من جبهات القتال في العام وبدأت المرأة معركة الحق في العمل في قطاعات الإنتاج الثقيل، وحقها في البحث عن مصادر رزق بوسائل مستقلة عن الرجل، وحقها في التصويت. ونجحت الحركة النسائية آنذاك في تسجيل نقاط مهمة أبرزها إعطاء الحق للمرأة بالتصويت واشترطت الدولة أن تكون تجاوزت سن الثلاثين لإعطاء موافقتها.
استمرت النجاحات تتقدم إلى أن وقعت الحرب العالمية الثانية في العام . وتكرر السيناريو نفسه. الرجل ذهب إلى جبهة الحرب والمرأة توجهت إلى المصانع حتى لا تتوقف عجلة الإنتاج العسكري. واستمرت الحرب سنوات وبعدها عاد الرجل ليواجه حركة نسائية أقوى من الأولى. وبدأت المرأة من جديد تحقق مكتسبات نقطة بعد نقطة، وأخذت ترتقي درجات سلم التطور الاجتماعي... إلى أن بلغت أقصى نقطة في ستينات القرن الماضي ونجحت في تحقيق المساواة مع الرجل تصويتاً وترشحاً. وبعد ذاك الوقت سارت الأمور بشكل طبيعي ومن دون تشنج. فالمرأة أصبحت جزءاً عضوياً من حركة الإنتاج وتحولت إلى دافع ضرائب لا يقل أهمية للدولة عن الرجل. وهكذا سلكت المرأة البريطانية مختلف الطرق فانتسبت إلى الأحزاب وتحولت بالتدرج ودورة بعد دورة إلى لاعب رئيسي في الحياة البرلمانية وتحديداً في نهايات سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
سياسة خطوة خطوة المتدرجة التي اتبعتها المرأة في بريطانيا مثلاً شكلت قاعدة متينة لدورها. فهي لم تقفز من فراغ وإنما على أساس قوي يرتكز على نسبة عالية من التطور الاجتماعي.
هذا وضع المرأة في بريطانيا. أما في سويسرا مثلاً فوضعها أسوأ. فهذا الاتحاد السويسري الذي يعتبر الأقدم في أوروبا (عمره يتجاوز سنة) يشتمل على كانتونات (وحدات سياسية تتمتع بإدارات محلية) لاتزال بعض وحداته تعاني المرأة فيها من تمييز. وحتى الآن هناك «كانتون» واحد على الأقل يمنع المرأة من الترشح لعضوية البرلمان.
هذا التوصيف لا يعني دعوة إلى اليأس وإنما محاولة لقراءة التطور وعدم القفز فوق الواقع حتى لا تكون الأمور أسيرة نزعة إرادوية تؤدي في النهاية إلى المبالغة في التفاؤل. فالمسألة بحاجة إلى رؤية زمنية تعيد إنتاج السياسة وفق صيغة تقرأ الواقع كما هو ولا تنساق مع المخيلة إلى درجة المغامرة. فالواقع العربي سيئ للمرأة والرجل سوية. والتطور العام لم يصل بعد إلى «الدولة» فهو لايزال أسير حلقات اجتماع تهيمن عليها القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو المنطقة (بيئة ثقافية). وكل هذه الشروط الاجتماعية تشكل موانع لابد من أخذها في الاعتبار حتى لا تنزلق المرأة نحو متاهات من اليأس. فالمسألة تحتاج إلى وقت. والوقت يتكفل بتجاوز الكثير من العقبات، وهذا لا يتم من دون إعادة قراءة موقع المرأة من عملية الإنتاج ودورها في رفد المجتمع بطاقات لا تستغني «الدولة» عن خدماتها ووظائفها. والأمر المذكور يتطلب من المرأة دخولها في قطاعات الإنتاج وتنمية دورها من خلال الانخراط في الجمعيات السياسية حتى تكون مترشحة مضمونة النتائج على هذه اللائحة أو تلك القائمة.
المرأة في بريطانيا مثلاً لا تترشح منفردة أو مستقلة وإنما ترشحها الأحزاب (العمال، المحافظون، الليبراليون الأحرار... إلخ) في دوائر جغرافية كثيرة بقصد كسب صوت المرأة كقوة ترجيحية في هذا المكان أو ذاك. الموضوع في النهاية يتصل بالحاجة والوظيفة والدور وليس منحة يقدمها الرجل إلى المرأة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1399 - الأربعاء 05 يوليو 2006م الموافق 08 جمادى الآخرة 1427هـ