فقط في الثقافة العربية الكذب يتحول الى «تجمّل» :أنا لا أكذب، أنا أتجمّل! أخلاقيا: كيف لكذب أن يتجمّل أو يجمّل به المرء موقفه؟
ألا تكشف تلك الثقافة عن استدراج غير معلن لوأد واحد من العناوين الكبرى للدين الذي أنتج تلك الثقافة: الصدق. وهل الصدق قيمة حصرية للمسلمين وحدهم، أو العرب؟ هل يعني ذلك بداية إلغاء وتهميش لما عدا تلك الثقافة؟ ذلك هو جانب من واقع الأمر.
لا نحتاج الى شواهد في هذا الصدد. واحد من وجوه الارهاب في العالم: اسامة بن لادن لا يتردد في تصنيف خال من الفرز للبلاد والعباد: صليبيون، أبناء القردة والخنازير. وأميره المقبور المعيّن في بلاد الرافدين، أبومصعب الزرقاوي، الذي ظل همه الأول والأخير إرسال (الرافضة) الى جحيم أعده لهم، أكثر من هم تعقّب (الصليبيين وأبناء القردة والخنازير)، والدليل احصاءات المصابين بالشذوذ والهوس، والذين ظل همهم الأكبر هو توجيه السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة باتجاه طائفة من المسلمين. ألا يعد ذلك تحريفا وكذبا وتجييرا منحرفا للفهم الخاضع الى معسكرات التحريض الذي يشكل عمارته فكر ظلامي منحط في أتفه وأقذر صورة؟
ثقافة تنتج سيارات مفخخة، وأحزمة كونية ناسفة بحجم المقبور الزرقاوي، وأشياعه وأتباعه، والمتعاطفين معه من المطعون في انتمائهم صدقا وواقعا الى دين هو بريء من كل تلك النماذج التي لا هم لها الا الامعان في تشويه صورته، لا يمكن أن تحظى بالساقط من الاحترام.
هل حقيقة تلك الصورة غائبة عن افهام ووعي ومدارك تلك الفئة المنحرفة؟ يبدو سؤالا ساذجا. أليس كذلك؟ ولكن ما الذي يعنيه استماتة تلك الفئة في تراكم صور من البشاعات تظل خدمة الدين هي عنوانها الأكبر، فيما النتائج والأثر لتلك الخلاعات اليومية يذهب في اتجاه تأكيد صورة نمطية اشتغل ولا يزال يشتغل عليها كثيرون ممن صموا آذانهم وأعموا أعينهم كي لا يقفوا على الصورة الحقيقية له.
مثل تلك الثقافة تكشف عن مأزق حقيقي وبيّن. مأزق يتعلق باحتكار التفسير والفهم، وأحيانا التأويل الذي لا مكان له في عقيدة أولئك النفر، ولكنه يظل ملحّا وضروريا حين يتعلق الأمر بفئة من المسلمين يراد لها أن تكون خارج الكادر، وعلى مبعدة من الاتصال بما يحدث، والسبب: تجيير ما يحدث وفق الاحتكار نفسه في الفهم.
ثقافة تنتج مثل تلك العيّنات لا يمكن لها أن تطمئن العالم على أنها ثقافة ترمي الى الالتقاء والاتفاق على قواسم مشتركة، وخصوصا أن تلك القيمة غائبة أو مغيبة بين أبناء الدين الواحد، ويعمل أحد أطرافها على أن تدخل في مدارات من النسيان والتحفظ عليها، وعدم تفعيلها والسبب: حرص على نقاء العقيدة. وبالوصول الى تلك النتيجة: الحرص على نقاء العقيدة، ضمن فهم تلك العينات، يتم تقرير أن ما عداها من اعتقاد هو محض تلوّث واختلاط، وبكلمة أخرى: على النقيض تماما من ذلك المفهوم، وعلى مبعدة منه، ويفصل بينه وبين منبع ونقاء تلك العقيدة أكثر من برزخ. عدم امكان تحقيق مثل تلك الطمأنينة الى العالم بهكذا سلوك يكاد يكون متمكنا في الاعتقاد، وبالتالي يصبح الحديث عنها ضربا من التخرص والتوهّم وأضغاث الأحلام حين يكون الآخر معنيّا بها.
ثقافة الانفتاح على الموت، تلك التي تتمدد وتنمو كالطحالب في عالم عربي خاضع في جل تحركه وانجازه الى المزاج في صورته التدميرية والالغائية المقيتة، لا يمكن بأي حال من الأحوال المراهنة عليها، بمنطق يسعى واهما الى تحييد القتلة والسفاحين، والوصول بهم ومعهم الى حال من الهدنة المؤقتة، ما يعني عدم الممانعة في استئنافهم للولوغ في الدم بعد انتهاء أو انهيار تلك الهدنة، التي هي أساسا قائمة على الانهيار.
ثقافة عناوينها ومضامينها الليل، لا يمكن أن تتجرأ على ادّعاء التنوير. ثقافة علاقتها بوضع حد للحياة في صورها الفظيعة والمقززة، لا يمكن لها أن تدّعي امكانات التنفس بشكل طبيعي، ثقافة منهجها الإقصاء والإلغاء والنحر والاختطاف، لا يمكن أن يكون لها رأس.
باختصار، ثقافة تستدعي تراثها في الدم، والمؤامرات، والالغاء والاقصاء، والنحر، والاختطاف بشقيه المادي والمعنوي، وتبني عليه من خلال ما توفر لها من امكانات لن تبخل بها حزمة من السلطات، مع فتح الأحضان لها والجوامع والخزائن وحتى القناعات!
فكر بتلك الفظاعات... ثقافة بذلك الارتداد، جديرة بأن تُسخر لها كل حيزات الوطن كي يتم قبره، كما تُقبر جيفة، لأننا في النهاية لم نعد قادرين على المراهنة على مناعتنا من جيف بالجملة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1399 - الأربعاء 05 يوليو 2006م الموافق 08 جمادى الآخرة 1427هـ