أعرف أن ما تقوم به القوات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية ليس هو الأول من نوعه، وأعرف كذلك أنه لن يكون الأخير. لكن الذي يجري حالياً في فلسطين يكاد يستعصي على الفهم السليم، والموقف الذي تمارسه الدول العربية مما يجري في دولة عربية أخرى لا يكاد يصدق، بل هو مخزٍ بكل المقاييس.
الصهاينة - وقبل اختطاف جنديهم - كانوا وبشكل مستمر يقتلون ويدمرون كل ما يقدرون عليه من أبناء فلسطين ومدنهم، وكانوا يقولون إنهم ماضون في هذا الطريق ما دامت منظمة حماس موجودة على رأس السلطة الفلسطينية. ولم يكن خطف الجندي وراء كل الجرائم التي ارتكبوها في فلسطين لأن هذه الأعمال وبهذا الحجم الهائل كان مخططا لها قبل ذلك بكثير وبهدف إسقاط الحكومة الفلسطينية، هذا التوجه أكدته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عندما قالت: إن حكومة أولمرت استغلت قضية الجندي المخطوف لإسقاط حكومة إسماعيل هنية، وأكدت أن حملة الاعتقالات في صفوف القيادة الفلسطينية خطط لها منذ أسابيع.
لقد حاول الصهاينة ومعهم الأميركان الضغط الشديد على حكومة فلسطين وبكل أنواع الضغط المادي والمعنوي بهدف إسقاط هذه الحكومة التي لا تحقق المصالح والأهداف الصهيونية وعلى رغم قساوة الحصار الذي ساعد عليه كثيرون، فإن هذه الحكومة استمرت في أداء عملها ولما رأى الصهاينة متانة موقفها لم يكن أمامهم غير خيار القوة لإسقاطها، وكانوا يعرفون - بطبيعة الحال - أن أميركا ستكون معهم وستؤيد كل جرائمهم التي سيقومون بها وجاءت حادثة هذا الجندي لتتخذها «إسرائيل» حجة لها لاجتياح الأراضي الفلسطينية.
في نظر الصهاينة أن خطف جندي مسلح وأثناء قيامه بعمله كان عملاً إرهابياً مخالفاً لكل القوانين، ولست أدري من أين جاءوا بهذه الأحكام إذا كانت حكومتهم قد قامت على الإرهاب ومخالفة كل القوانين الدولية.
عمليات الاختطاف تشكل جزءا من الممارسات الاعتيادية التي يمارسها الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين، والواضح أن هذا الجيش يمارس هذه العملية باحتراف كبير ولهذا لم استغرب تصريح وزير البنى التحتية بنيامين بن أليعازر عندما قال: «إذا كانت (حماس) قد قررت استخدام سلاح جديد عبر القيام بعمليات خطف فسنثبت لها أننا محترفون». ومع أن «حماس» لم تخطف ذلك الجندي لأنها أسرته في معركة إلا أن الصهاينة قبل هذه الحادثة خطفوا مئات الفلسطينيين - رجالاً ونساء - كما خطفوا مجموعة من المساجين وبالقوة ومنهم سعدات واقتادوهم إلى الأراضي المحتلة ليحاكموهم هناك.
عمليات الصهاينة داخل الأراضي الفلسطينية وبكل بشاعتها كانت تقابل بترحيب من الأميركان وبما يشبه الصمت من العرب، وعندما أسر الجندي الصهيوني تحرك العالم كله للتنديد بهذا العمل وكان على رأس هؤلاء المنددين الأميركان.
الحكومة الأميركية بادرت إلى القول إن من حق «إسرائيل» أن تدافع عن نفسها، ولم نسمع من هؤلاء ولا مرة واحدة أن من حق الفلسطينيين أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا من حق العراقيين أن يدافعوا عن أنفسهم... في نظر الأميركان أن كل ما قامت به «إسرائيل» من حقها المشروع، خطف الوزراء والنواب حق مشروع، تدمير محطات الكهرباء والجسور دفاع عن النفس، قتل الأطفال والنساء عمليات مشروعة، محاصرة الشعب الفلسطيني كلها عمليات قانونية... وباختصار فإن كل جرائم الصهاينة في نظر الأميركان عمليات مشروعة مهما كان نوعها...
بطبيعة الحال المباركات الأميركية ليست مستغربة لأن الأميركان يمارسون الدور نفسه في العراق، فلماذا ينكرون على أصدقائهم ما يمارسون مثله وبصورة يومية...؟! الأميركان قتلوا مئات المدنيين في العراق وفي أماكن متفرقة وعندما انتشرت فضائحهم حاكموا بعض أفرادهم بصورة هزلية ليقولوا بعد ذلك إن مثل هذه الأعمال تجري في كل الحروب، وقبل أيام قام جنودهم باغتصاب عراقية ثم قتلوها مع أفراد عائلتها وأجزم أنهم سيقولون أيضاً إن هذه الأعمال ليست من الجرائم التي تستحق العقاب... جرائم الأميركان لا تتوقف وكلها في نظرهم مشروعة فإذا كان الأمر كذلك فإن مباركتهم للجرائم الصهيونية ليست مستغربة بل هي جزء من سياساتهم التي لم تنقطع.
أميركا و«إسرائيل» في خندق واحد، وعداؤهما للعرب وللمسلمين ليس جديدا والتعويل على موقف أميركا من المسألة الفلسطينية وهم يجب التخلي عنه. ومن مصلحة العرب أن يعرفوا أن الاعتماد على أنفسهم هو المنقذ الوحيد لهم، لقد أصبح الشارع العربي يستغرب من المواقف التي يراها من الحكومات العربية والتي لا تنسجم مطلقا مع حجم المآسي التي تقع في فلسطين، فإذا كان الأميركان ومن يقف وراءهم لهم مصالح من مباركتهم للجرائم الصهيونية فما هي مصلحة الحكام العرب من هذا الصمت؟
لماذا صمت العرب عموماً - والمصريون خصوصاً - عن قتل الجنود المصريين على أيدي الصهاينة ولم نسمع حتى الآن أي شيء عن تلك الجريمة وهي ليست الأولى من نوعها، لماذا يتحرك العرب الآن من أجل هذا الجندي من دون أن يتحركوا بفاعلية من أجل وقف الجرائم ضد الفلسطينيين؟ هل نفسر هذا الصمت بأنه تأييد للصهاينة أم عجز تام عن فعل شيء؟ الأميركان - وبكل وقاحة - طالبوا سورية بسجن مشعل لأنه في نظرهم إرهابي معروف، والعرب صمتوا على عادتهم ولم يقولوا للأميركان إن قادة الصهاينة كلهم إرهابيون معروفون، ولم يقولوا للأميركان إن كل أفعالهم في العراق إرهاب معروف.
الصمت العربي المعلن يغري بمزيد من الاعتداءات اليوم على فلسطين وغداً على غيرها، عار علينا جميعا أن نرى ما يحدث في فلسطين ونقابله بصمت... الاعتداءات الصهيونية لم تتوقف ولن تتوقف ما دام الصمت المريب هو ديدننا.
نافذة:
أميركا و«إسرائيل» في خندق واحد، وعداؤهما للعرب وللمسلمين ليس جديدا والتعويل على موقف أميركا من المسألة الفلسطينية وهم يجب التخلي عنه
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1398 - الثلثاء 04 يوليو 2006م الموافق 07 جمادى الآخرة 1427هـ