من الواضح انه تم اختيار العبارات بدقة، لتعبر عن المعاني المقصورة بدقة أكبر ووضوح أعمق.
هكذا بدأ الصدام الدموي الأخير بين المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية، مالكة أقوى ترسانة مسلحة في المنطقة، وبين الشعب الفلسطيني الأعزل، المحبوس في سجن يسمى غزة، الصغيرة المساحة الضيقة الحدود، وعلى رقعتها الضيقة هذه يعيش مليون ونصف مليون خلف القضبان الكهربائية والحوائط الأسمنتية.
الوهم المتبدد. اسم ومعنى لعملية فدائية جريئة، حفر خلالها رجال المقاومة الفلسطينية، نفقا ارضيا. وصلوا من خلاله الي مركز تجمع عسكري إسرائيلي، وفاجأوه بخوض معركة مباشرة، وقتلوا جنديين وأسروا ثالثا... ولم يكن الهدف فيما اظن هو مجرد اقتحام مركز إسرائيلي محصن، ولكن الهدف الأبعد والأعمق، هو ايصال رسالة إلى «إسرائيل» ان المقاومة تستطيع ان تصل وتقتحم أي موقع في أي مكان في الأرض المحتلة، مهما تكن الصعوبات والتضحيات.
ومعنى ذلك أن المقاومة قادرة على تبديد اسطورة الوهم الزائف، التي نجحت «إسرائيل» في الترويج لها، ورددها من خلفها بعض العرب، من انها قوة نووية لا تقاوم، وجيشها لا يقهر وترسانتها العسكرية لا تنفذ وقدرتها على الرد والانتقام لا تنتهي أو تتوقف!
ومعنى ذلك أيضاً أن اقتحام المقاومة الفلسطينية لموقع عسكري إسرائيلي، ومقاتلته بالسلاح، أجدى ألف مرة، من تلغيم فتى أو فتاة لتفجير نفسه أو نفسها في مقهى أو سينما أو حافلة لنقل الركاب، لان مباغتة مدنيين وقتلهم مدان ومستنكر إنسانيا، اما مهاجمة عسكريين فهو مبرر وفقا للشرائع والقوانين، لانه دفاع عن النفس والوطن، ولانه مقاومة المحتل الغاصب.
وبقدر ما ان «إسرائيل» تنجح في اثارة مشاعر العالم كله شرقا وغربا، استنكارا لعملية فدائية تصيب مدنيين إسرائيليين، باعتبارها إرهابا، بقدر ما ان اقدام «إسرائيل» على ممارسة القتل اليومي للمدنيين الفلسطينيين، على غرار قصف العائلات بأطفالها ونسائها على شاطئ غزة قبل أيام لم يعتبر إرهابا، وانما صنفته السياسات الاورواميركية على أنه دفاع عن النفس.
بعد أيام قلائل من عناق كاذب واحضان خادعة، بين رئيس وزراء «إسرائيل» أولمرت والرئيس الفلسطيني أبومازن، في ضيافة الأردن، اصدر أولمرت أوامره بحصار أبومازن في غزة ومنعه من العودة إلى مقره الرسمي في رام الله، في نطاق عملية أمطار الصيف، مذكراً بقرار سلفه شارون بحصار الرئيس الراحل عرفات في مقرة بالمقاطعة في رام الله، التي لم يخرج منها إلا قبيل طلوع الروح غريبا في فرنسا!
أمطار الصيف إذاً عملية اجتياح عسكري إسرائيلي واسع، ليس هدفها مجرد احتجاز الرمز الفلسطيني الأول (أبومازن) في محبس داخل سجن غزة، وليس هدفها مجرد الانتقام لأسر المقاومة الفلسطينية للجندي الإسرائيلي (جلعاد) خلال عملية الوهم المتبدد، ولكن هدفها هو انهاء مسلسل التحدي الفلسطيني المتصاعد والمتمثل في جناحين أولهما نشاط المقاومة وخصوصا بعد تطوير عملياتها، من مجرد اطلاق صواريخ على المستعمرات الصهيونية، إلى اقتحام المواقع الإسرائيلية المحصنة عسكريا وتكنولوجيا، على غرار الوهم المتبدد، وثانيهما اطلاق الرصاصة الاخيرة والقاتلة على حكومة حماس المنتخبة والمتمركزة في غزة، بكل ما تمثله من معان ومبادئ!
يلفت النظر بمزيد من القلق والاستنكار، أن المواقف العربية والغربية، تلتقي مع الهدف الإسرائيلي ذي الجناحين السابقين، المدعوم بمساندة أميركية هائلة، ودليلنا على ذلك، ان الضغوط والوساطات والتدخلات والمناشدات العربية والاجنبية، تزاحمت بقوة لاجبار المقاومة على اطلاق سراح الجندي الإسرائيلي المأسور، بحجة انقاذ غزة من الاجتياح الإسرائيلي، على رغم ادراك الجميع ان الاجتياح كان سيتم حتماً، وجرى الاعداد له قبل اسر جلعاد.
وبالقوة نفسها للضغوط والتدخلات، سعت الجهود العربية والأوروبية والأميركية، على مدى الشهور الماضية، إلى محاصرة حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا، واجهاضها واجبارها على الانسحاب أو السقوط المدوي، ولا أدل على ذلك من الحصار المشدد ومنع المساعدات وايقاف حتى المعونات الإنسانية للمستشفيات والمدارس والعائلات الفقيرة، ناهيك عن ايقاف رواتب العمال والموظفين...!
الهدف هو كسر نفس الفلسطيني الذي انتخب «حماس» ورضي بها، وكسرعين «حماس» التي نجحت في الانتخابات الديمقراطية وارادت ان تحكم بالديمقراطية، فاذا بكل القوى المناوئة لها في الداخل وفي الخارج، تتكاتف ضدها لتعريتها واسقاطها، ووضعها في اختبار صعب، بين ان تتهم تاريخيا بتجويع ومحاصرة وعقاب الشعب الفلسطيني، وبين ان تعيد «إسرائيل» احتلال غزة، بعد مسرحية فك الارتباط الشهيرة!
اما وان هذا وذاك قد صادفه الفشل، أو قل التباطؤ، فإنه كان ضروريا ان تسقط وتهطل «امطار الصيف» في منطقة لا نعرف فيها امطارا في الصيف، وبدأت «إسرائيل» ممارسة لعبتها المفضلة، بالاجتياح والعدوان العسكري المباشر، بحجة استعادة «إسرائيل» جنديها المأسور، وفي سبيل ذلك تطوع المتحدث الرسمي الأميركي بالقول إن «إسرائيل» تدافع عن نفسها وعن حقها الشرعي في الحياة. وهو يعلم جيدا ان عملية امطار الصيف، بدأت بتدمير محطات الكهرباء والماء والكباري والطرق، ودك المنازل والمدارس والملاعب الرياضية والمستشفيات، بهدف تدمير ما تبقى من البنية التحتية في غزة، مثلما دمرت من قبل مطار غزة وميناءها البحري ومؤسسة الاذاعة والتلفزيون ومكاتب الاحصاء ومعسكرات الشرطة، بما في ذلك ما موله الاتحاد الأوروبي نفسه من مشروعات!
وفي حين اعتبرت «إسرائيل» ان اسر جنديها في عملية الوهم المتبدد عملا ارهابيا، ووافقها في ذلك أميركا وأوروبا، وأيدتها اصوات عربية معروفة، فرددته خلفها قوات «المتأمركين العرب» اصدقاء «إسرائيل» في السر والعلن، فان قيام «إسرائيل» بخطف واعتقال أكثر من مئة شخصية قيادية فلسطينية في يوم واحد، بينهم أكثر من ثلث حكومة حماس، وزراء، و نائباً منتخباً في المجلس التشريعي والباقي من رؤساء البلديات، ضمن خطوات عملية امطار الصيف، لم يصفه أحد من هؤلاء بانه إرهاب، بينما هو إرهاب دولة وفق كل تعريف قانوني أو سياسي!
لقد راهنتت «إسرائيل» وحلفاؤها واصدقاؤها من العرب والغرب، على ان الاقتتال الفلسطيني الداخلي واقع لا محالة، عبر صدام «فتح» مع «حماس»، والرئيس الفلسطيني مع رئيس وزرائه، والأمن الوقائي من قوات الأمن الخاصة، ونواب المجلس التشريعي معا، وبدأت نذر الصدام تبدو في الافق، لكن الغريب ان يتفق الفرقاء الفلسطينيون الرئيسيون، خصوصاً «فتح» و«حماس» والجبهة الشعبية، على وثيقة الحوار الوطني، وان تبدأ عملية امطار الصيف الإسرائيلية في توقيت اعلان التوافق الفلسطيني نفسه، وكأنما الرسالة تقول غير مسموح ان يتفق الفرقاء الفلسطينيون تحت أي ظرف، بل المسموح هو أن يقتل بعضهم بعضاً، ومن يبقى على قيد الحياة، يتولى مسئولية حراسة الأمن الإسرائيلي، وحمايته من خطر المسجونين داخل سجن غزة (وبالمناسبة تعتقل «إسرائيل» نحو عشرة آلاف فلسطيني، بينهم مئات من النساء والأطفال).
ربما تنجح الترسانة العسكرية الوحشية الإسرائيلية، المدعومة اميركيا وأوروبيا، في اغتيال قيادات «حماس»، وتقويض الحكومة الفلسطينية المنتخبة، وفي قتل أو اعتقال الوزراء والمديرين والنواب، وفي تدمير باقي البنية التحتية. وفي اظلام قطاع غزة وتجويع شعبها، تحت شعار امطار الصيف، ومن دون أن تلقى رد فعل عربيا على مستوى هذا العدوان، ومن دون ان تصادف ادانة دولية واحدة، كما حدث من قبل عشرات المرات.
لكن المؤكد أن الوهم قد تبدد، وهم الأمن الإسرائيلي، والجيش الذي لا يقهر. والدولة الديمقراطية، والمواقع الحصينة والصواريخ التي تطير إلى ابعد مدى، والحماية الأميركية الاستراتيجية، فوق وتحت الترسانة النووية قدس أقداس الدولة اليهودية... كل ذلك تبدد وهمه درجة بعد درجة على رغم خطورته على أمن المنطقة!
وبقدر ما سبق ان عاشت «إسرائيل» حال تبدد هذا الوهم، في أيام حرب اكتوبر/ تشرين الأول المجيدة العام ، بقدر ما هي الآن تستعيد الذكرى الرهيبة ذاتها، على رغم غياب الجيوش وصمت المدافع عبر الحدود العربية، ذلك أن إرادة المقاومة والحق الشرعي في الدفاع عن شرف الوطن، والتضحية بالنفس دفاعاً عن مبدأ وقيمة وموقف، يظل هو محرك الشعب الفلسطيني، حتى وهو تحت الحصار والعقاب الوحشي، يقاتل عرياناً من أي غطاء، عربيا كان أو دوليا فقد تخلى الكل وقال نفسي نفسي، هلعاً من أي عقاب أو حتى كلمة عتاب، من سيدة الكون.
وبالمناسبة، هل مازال «المتأمركون العرب» يعتبرون كلمة أميركا هي الكلمة العليا الوحيدة، وأن أمطار الصيف هي وحدها التي ستفك عقدة الصراع، وتنهي الصداع، وان انفلات القوة الصهيونية، يوجب علينا قبول الاستسلام لإرادتها؟!
خير الكلام
يقول أبوالقاسم الشابي:
هو الحق يغفـو ثم ينهضُ ساخطاً
فيهدمُ ما شــــــاء الظــلامُ ويَحْطـمُ
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1398 - الثلثاء 04 يوليو 2006م الموافق 07 جمادى الآخرة 1427هـ