من جديد طرحت مسألة تمثيل المرأة في «البرلمانات» العربية بمناسبة الانتخابات التشريعية التي عقدت حديثاً في الكويت. وجرى التركيز في النقاشات على موضوع ضعف التمثيل وعدم ثقة المجتمع بالمرأة وتردد الرجل في اختيارها في حال كانت المنافسة بين مترشحة ومترشح.
هذا النقاش ليس جديداً، ففي معظم «البرلمانات» العربية هناك ضعف في تمثيل المرأة سواء في تلك البلدان التي اكتسبت تجربة «ديمقراطية» أو في البلدان التي دخلت حديثاً غمار هذه التجربة. ففي لبنان مثلاً الذي يتمتع بتجربة قديمة بعض الشيء في موضوع التداول السياسي والالتزام بعملية الانتخابات كل أربع سنوات مرة تعاني المرأة من ضعف التمثيل إلى درجة اقترح النظام الانتخابي البديل ان تعطى «حصة» في المقاعد حتى لا تكون النتائج دائماً على حسابها.
هناك فريق يعارض فكرة الحصة (الكوتا) ويعتبرها غير ديمقراطية لانها تفرض على الناس خيارات محددة وتنتج قوى تمثيلية لا تعكس فعلاً مستوى تطور ثقافة المجتمع ووعيه السياسي. وهناك فريق يؤيد فكرة «الكوتا» لانها تشكل الملاذ الطبيعي لمشكلة اجتماعية موروثة تتطلب وقتاً لحلها. وفي الحقيقة أن المرأة ليست الوحيدة التي تعاني من مشكلة التمثيل في «البرلمانات» العربية. فهناك إلى جانبها عشرات القوى السياسية «الحداثية» التي تنتج الكتب والبرامج والأفكار وخطط التنمية وتملك من الإمكانات والاقتراحات ما يكفي لتعبئة رفوف مكتبات تعاني بدورها من مشكلة التمثيل. فهذه القوى الحديثة (احزاب معاصرة، نقابات، اتحادات مهنية)، ترشح في لبنان مثلاً الرجال الأكفاء والأقوياء وأصحاب رأي ووجهات نظر مختلفة في التصنيع والتطوير والتنمية والبيئة والصحة والتربية وغيرها من قطاعات حساسة كالكهرباء والنقل والاتصالات والمياه والزراعة والسياحة وحين تأتي لحظة الاختيار يميل الناخب إلى التصويت لمترشحين ينتمون إلى احزاب تتمتع بمواقع خاصة في هذه المنطقة أو تلك الطائفة أو هذا المذهب.
المشكلة إذاً لا تقتصر على المرأة وإنما على مفهوم الاختيار بناء على المصلحة. وبسبب ميل الناخب إلى اختيار القريب منه (الذي يشبهه) تذهب غالبية الأصوات إلى جهة لا تملك الأفكار والبرامج والخطط. فالناخب يختار مرشح الخدمات ويبتعد عن المترشحين الذي ينتجون الكتب والنظريات.
هذا الميل الطبيعي عند الإنسان، وخصوصاً في المنطقة العربية الإسلامية التي لاتزال تمر في مرحلة ما قبل الدولة، يتحكم كثيراً بشروط الاختيار سواء كان المترشح في الدائرة امرأة أو رجلاً ينتمي إلى تيار «علماني» أو «حداثوي».
المسألة تتصل بنسبة التطور ومدى اتساع رقعة القطاع الحديث وتأثيره السياسي على آلية نمو المجتمع. وبما أن المجتمعات العربية غير «محدثة» وهي لاتزال تمر في فترة تاريخية تتحكم القوى التقليدية في آليات صنع السياسة فإن ميول الناخب مشروطة بجملة اعتبارات ليست بالضرورة موجهة عن قصد ضد المرأة. فهناك الكثير من الرجال يستحقون الفوز ويملكون المؤهلات التي يفترض انها تكتسب احترام المجتمع يسقطون في الانتخابات (اللبنانية مثلاً) في حال تنافسوا ضد مترشحين مدعومين من شبكة العلاقات الأهلية. فالناس عادة تميل إلى المترشح الذي يشبهها ويعيش معها ويعاني ما تعانيه. كذلك تبتعد عامة الناس عن ذاك المترشح «الحداثوي» الذي يتكلم الإنجليزية ومتخرج من جامعات أوروبية وأميركية لأنها لا تراه إلا في المناسبات ولا يتمتع أيضاً بتلك الصفات المتصلة بنظام القرابات الأهلية والمناطقية.
نظام القرابات في النهاية، وخصوصاً في البلدان التي لاتزال تتطور سياسياً نحو الدولة، يتميز بتشكيل اجتماعي يؤسس علاقات أهلية مترابطة ومنسجمة مع طبيعة الكيان الضيق في بقعته الجغرافية وبيئته الثقافية. والبيئة هذه قد تكون محلية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية (عشائرية) أو عائلية (أسرية) أو خدماتية. والخدمات مسألة مهمة في بلدان تفتقد إلى المؤسسات (الحديثة والمعاصرة) لأنها وسيلة للتقدم الاجتماعي أو قناة اتصال خفية بين الناس ومراكز النفوذ (وزارات، مراجع، أصحاب الحل والعقد أو القبض والبسط). فمثل هذه القنوات تسهل الكثير من الأمور مع مفاصل النظام العام.
هذه الشروط الموضوعية تشكل عقبات واقعية أمام طموحات فردية نسائية أو رجالية تظهر هنا وهناك عند عقد كل دورة انتخابية. فالناخب في لبنان مثلاً يتوجه إلى صناديق الاقتراح بناء على دعوة عامة اطلقها زعيم هذه الطائفة أو تلك العشيرة أو هذه الأسرة التي تتمتع بمزايا رئاسية متوارثة تقليدياً عن الجد والابن والحفيد. وقليل من الناخبين (يشكلون نسبة لا تتجاوز في المئة في أحسن التقديرات) يختارون المترشح الاكفأ أو الذي يتمتع بمواصفات خاصة تؤهله أن يكون الممثل الحقيقي لهذه الدائرة أو تلك.
الاختيار إذاً ليس موجهاً ضد المرأة بالذات وإنما هو توجه عام محكوم بشروط الاجتماع ومدى تطوره ونسبة الوعي في التعامل مع نظام «حديث» في المنطقة العربية الإسلامية. فهذا النوع من الانتخابات يعتبر من الابتكارات الجديدة ويحتاج إلى وقت حتى يكتشف المقترع ان مصلحته تقضي بتفضيل فلان على آخر. ومسألة الوقت مهمة كذلك تراكم التجربة والخبرات. وهذا ما حصل نوعاً ما في لبنان حين لجأ بعض المترشحين «الحداثويين» أو «العلمانيين» إلى زعامات تقليدية متوارثة لاختيارهم كاسماء مترشحة على لائحة هذا «القائد» أو ذاك «المعلم». فنظام اللائحة (القوائم) أعطى فرصة للمرأة وأيضاً للرجل بأن ينخرط تحت ألوية قوى تقليدية تتحكم بشروط الاجتماع وآليات إنتاج السياسة، ما أدى إلى نجاح الكثير من الوجوه النسائية و«الحداثية» ودخولهم البرلمان.
هناك فرصة للمرأة في البحرين أفضل من تلك التجربة في الكويت. وهي أن تقدم الجمعيات السياسية والمنظمات الأهلية على اختيار أكثر من مترشحة على اللوائح في هذه المنطقة أو تلك. فمن دون التحالف يصعب على المرأة المستقلة أو الرجل «الحداثوي» أن يفوز في دائرة أو منطقة لاتزال تتقدم نحو التعرف على مسألة «الدولة» ودورها ووظيفتها في قيادة التحول الاجتماعي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1398 - الثلثاء 04 يوليو 2006م الموافق 07 جمادى الآخرة 1427هـ