العدد 1397 - الإثنين 03 يوليو 2006م الموافق 06 جمادى الآخرة 1427هـ

لماذا تضيع رسائل المعارضة في الطريق؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يتوافق مع نزعة الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ في خطاب قوي المعارضة اليوم نزعة أخرى سنسميها هنا نزعة «الهوس بالبيان والتبيين». وتتمثل هذه النزعة في هوس الفاعل السياسي بالبيان والكشف بحيث يتراءى له أن المطلوب والمنتظر منه هو ممارسة الكشف والإيضاح والبيان والتبيين والفضح والإفصاح، وكأن ثمة أموراً مخفية مستورة وبحاجة إلى البيان والكشف. وعندئذ ستكون المواقف السياسية من مقاطعة ومشاركة ومسيرات وعرائض كلها مواقف من أجل كشف هذا المستور وبيان ما خفي من أموره. وفيما يتعلق بمقاطعة انتخابات ، يقول رئيس الهيئة الاستشارية في جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)، عبد الرحمن النعيمي، إن قوى التحالف الرباعي إنما قاطعت الانتخابات «لتكشف ما جرى من ارتدادات عن التعهدات»، ثم يضيف: «أردنا عبر المقاطعة أن نكشف للجميع سلبيات ما جرى وعدم موافقتنا على الصلاحيات التي منحت لبرلمان العام ». فالمقاطعة إذاً موقف غايته الكشف والبيان والتبيين. وبالمعنى ذاته يصور خطاب جمعية الوفاق المشاركة في انتخابات على أنها موقف سياسي غايته الكشف والبيان؛ وذلك حين يشير تقرير الأمانة العامة إلى هذا البيان بما هو مكسب من مكاسب المشاركة في انتخابات ، وهو مكسب يتحقق من خلال «إحراج النظام بتقديم مقترحات تغيير دستوري من داخل المجلس تمثل رؤانا في الوضع السياسي ولنبين بذلك للعالم أن النظام يرفض الإصلاح وتطوير التجربة من داخلها في حال رفضه لهذه المقترحات بالتعديل الدستوري». فهذه قوى تقاطع لتكشف وتبين، وكذلك هي تشارك لتكشف وتبين.

ترى ما الذي يحول الأفعال السياسية إلى مواقف غايتها البيان والتبيين والكشف والإفصاح؟ وما الفائدة الكبرى المنتظرة من هذا النوع من المواقف السياسية البيانية؟ ثم من المقصود بهذا البيان والتبيين ومن الجهة المخاطبة بهذا البيان والتبيين؟ وهل هناك علاقة بين هذه النزعة وبين نزعة الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ؟

ينبغي علينا قبل الإجابة أن نرجع إلى الجاحظ، الكاتب الفذ في القرن الثالث وصاحب كتاب «البيان والتبيين». فالجاحظ يتحدث عن «البيان والتبيين» بما هو كشف عن الحاجات وإفصاح عما خفي من المعاني، ومدار الأمر في هذا «البيان والتبيين» هو تحقيق التواصل والتفاهم بين الناس بأية وسيلة، وبحسب تعبير الجاحظ فإن «مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، وإنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضوع».

وبالمعنى هذا كانت مواقف قوى المعارضة مواقف بيانية ذات غاية تواصلية، أي أن الغرض من هذه المواقف هو إرسال إشارات وتوصيل رسائل بأية وسيلة. وإذا كان مدار الأمر والغاية التي تجري إليها قوى المعارضة من وراء جملة المحاضرات والندوات التي نظمتها المعارضة منذ فبراير/ شباط ، هو بيان سلبيات ما جرى، والإفصاح عن الاعتراض على التعديلات الدستورية. إذا كان الأمر كذلك فإن نزول المعارضة إلى الشارع وتسيير المسيرات لم يكن مؤشراً على تحول في الفعل السياسي، بل هو علامة على أن الرسائل الأولى (المحاضرات والندوات) ضاعت في الطريق، وأخفقت في تحقيق التواصل المطلوب، فكان لابد من التحول إلى وسائل أخرى لتحقيق هذه الغاية، فكانت المسيرات والعرائض وسائل مختلفة إلا أنها تنطوي على الرسائل ذاتها. ولما تكشف لهذه القوى أن هذه الوسائل أخفقت كسابقتها اضطرت لإعلان المشاركة بما هي وسيلة تواصل جديدة لتبليغ ذات الرسائل الضائعة من قبل.

لكن ما الغاية من وراء هذا البيان والكشف في هذه المواقف السياسية؟ فإذا كان البيان هو غاية المواقف السياسية فما الغاية من وراء هذا البيان نفسه؟ أي ما غرض هذه القوى من البيان والتبيين والكشف والإفصاح؟ بالطبع ليس البيان هنا فعلاً مقصوداً لذاته وإلا صار خطاب المعارضة مأزوماً نفسياً ويعاني من عقد نفسية وبحاجة إلى تدخل علاجي. ثم إنه لو كان يقوم بفعل البيان من أجل البيان فقط لكتب هذا الخطاب على نفسه أن يتحول لا إلى خطاب عاجز عن الفعل فحسب، بل إلى خطاب أدبي، بلاغي، شاعري غايته التعبير من أجل التعبير إذ ينعكس الخطاب على ذاته، فينتج ما يسمى في النقد الأدبي بـ «شعرية الخطاب» أو «أدبيته».

على أن خطاب المعارضة ليس من هذا النوع، بل هو خطاب غايته تحقيق التواصل، فهو يكشف ويبين ويرسل الرسائل والإشارات من أجل تحقيق هذا التواصل المفقود بعد فبراير . وبما انه خطاب يسعى إلى تحقيق التواصل فإن الآخر المتلقي هو الجهة المقصودة بالخطاب. وفي هذا تتلاقى نزعة تسجيل المواقف للتاريخ مع نزعة البيان والتبيين. فكلتا النزعتين تصدران عن موقع مركزي واحد، هو موقع الفعل التواصل أو الفعل الذي غايته تبليغ «رسائل» وإرسال «إشارات» إلى آخر هو المقصود بالخطاب وبالمواقف السياسية. وليس غريبا بعد هذا أن تجد كل هم الفاعلين السياسيين اليوم منصبا على فعل الإرسال والتبليغ والتوصيل، وكأن المهمة «التاريخية الكبرى» التي يراد حفرها في «ذاكرة التاريخ» هي مجرد إرسال «رسائل» إلى المستقبل وإلى الأجيال المقبلة، مجرد «رسائل» هي بمثابة التحرك الاستباقي طلباً لصفح هذه الأجيال أو التماسا لجميل تذكرها على أقل تقدير. أو أن يكون الغرض من البيان والتبيين والكشف والإفصاح هو مجرد تبليغ رسائل إلى داخل البحرين وخارجها، وهي رسائل تنطوي على «معلومة» محددة هي أننا نعارض التعديل الدستوري الذي جرى في فبراير ، وأن كل ما نقوم به من أفعال سياسية هو لتوصيل هذه المعلومة إلى داخل البحرين وخارجها، وإلى التاريخ!

وهذا تحول جذري في بنية الفعل السياسي الذي تحول من «فعل إنجازي» في خطاب هيئة الاتحاد الوطني إلى «فعل رمزي» تواصلي في خطاب الفاعلين السياسيين اليوم، فعل غايته التعبير والتنفيس، وتبليغ «الرسائل»، وإرسال «الإشارات» إلى الداخل والخارج والتاريخ. وبهذا تحول الفاعل السياسي إلى مرسل، ومواقفه السياسية صارت مجرد رسائل، أما الفعل السياسي نفسه فأصبح مجرد فعل إرسال وتعبير وتبليغ. وعلى هذا فإن الفاعل السياسي الناجح هو من تصل رسائله إلى الجهة المقصودة فلا تضيع في الطريق ولا يساء فهم المراد منها، والأهم أن تحقق هذه الرسائل ما هو مطلوب منها.

وفي هذا الشأن، يتحدث الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان، عن مقاطعة انتخابات ويصورها على أنها كانت «رسالة»، أي اننا أمام فعل تواصلي، وأما هدف هذه الرسالة فهي «لفت النظر داخل وخارج البحرين بأن ما حدث من تعديل دستوري بشكل مفرد... هو محل اعتراض وعدم توافق لدى القوى السياسية، وهذا أنجزته المقاطعة على مدى أربع سنوات». وهو المعنى ذاته الذي عبر عنه جواد فيروز حين أشار إلى المقاطعة على أنها «رسالة»، وأن الهدف من تلك المقاطعة كان «توصيل الرسالة واضحة ومسموعة إلى شتى الأطراف بعدم مشروعية التعديلات». والخلاصة إذاً أن الموقف السياسي - المقاطعة هنا - صار مجرد رسالة، وأصبح غاية الفعل السياسي هو توصيل هذه الرسالة «واضحة مسموعة إلى شتى الأطراف».

يشار إلى أن خطاب المعارضة تحول إلى «فعل تواصلي» هدفه «لفت النظر» و«توصيل الرسائل» حين انفرط عقد التواصل بينها وبين القيادة السياسية بعد فبراير ، وجرى هذا بعد أن دخلت هذه القوى ضمن شروط العمل السياسي السلمي. ويحدث في هذه الشروط أن يكون «الفعل التواصلي» فعلا ناجحا ويحقق أغراضه، وذلك حين يخرج عن كونه مجرد فعل إرسال وبيان وتبيين ليكون فعلا له إنجازاته الملموسة. ويكون الفعل التواصلي ناجحا حين يتسلم المتلقي المقصود بالرسالة فيبادر إلى تحقيق المطلوب اضطرارا أو بطيب خاطر. فإذا كان مقصود المرسل من وراء المقاطعة هو تبليغ رسالة للقيادة السياسية بالعدول عن التعديلات الدستورية، فإن نجاح الرسالة لا يتحقق بإنجاز الإرسال والتبليغ والبيان والتبيين، بل يتحقق حين تصرف القيادة السياسية النظر عما أجرته من تعديلات دستورية. وبما أن هذا لم يحصل فإن ذلك علامة على أن الفعل التواصلي كان فعلا فاشلا لأنه لم يحقق مطلوبه، وأن كل ما حققته قوى التحالف الرباعي طوال أربع سنوات هو «لفت النظر داخل البحرين وخارجها» و«توصيل الرسالة واضحة». ولنا أن نسأل هنا: هل صار مجرد «لفت النظر» و«توصيل الرسالة» إنجازا سياسيا؟ وهل - حقا - نجحت هذه القوى في «لفت نظر» أحد بمطالبها أم بقيت هي وجماهيرها «المشتري الوحيد» لهذه المطالب بحسب ما جاء في تقرير الأمانة العامة بجمعية الوفاق بشأن مبررات المشاركة في انتخابات ؟ وإذا كانت هذه القوى هي «المشتري» الوحيد لهذه المطالب فهل هذا إقرار بأن أحداً - من غير هذه القوى وجماهيرها - في داخل البحرين وخارجها لم يلتفت بنظره إلى هذه المطالب؟ وهل هذا إقرار بأن مهمة «لفت النظر» - على هزالتها - لم تنجز أصلا، وأن الرسائل المرسلة ضاعت في الطريق ولم تصل إلى جهتها المقصودة؟ وأنها لم تكن واضحة ولا مسموعة من قبل شتى الأطراف؟ وللموضوع صلة في مقال الأسبوع المقبل

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1397 - الإثنين 03 يوليو 2006م الموافق 06 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً