وسط عدم اكتراث دولي تبدأ اليوم محاكمة الوزراء والنواب الفلسطينيين المختطفين بتهم تتصل بالإرهاب ودعم القوى المعارضة للاحتلال. وعدم الاكتراث يشير إلى وجود فضاء دولي غير معارض بقوة للسياسات الإسرائيلية التي تقودها حكومة إيهود أولمرت. وهذه النقطة تعتبر خطيرة في العلاقات الدولية لأنها جديدة في إطار رؤية منطق تلك العلاقات وما تعنيه من احتمالات تجددها في أمكنة أخرى.
المحاكمة أصلاً باطلة والخطف غير مشروع، وكذلك الاحتلال وتداعياته من اجتياحات وتحطيم وتدمير وحصار وتجويع. وعلى رغم كل هذه العناصر المجتمعة يظهر «المجتمع الدولي» عدم اكتراثه بالموضوع وكأن الممنوعات مسموح بها للدولة العبرية. فـ «إسرائيل» كانت ولاتزال هي الاستثناء عن القاعدة الدولية وضوابطها القانونية. فهي الطفل المدلل الثقيل الدم الذي يسمح له بأن يفعل ما يشاء بذريعة أنه قاصر العقل وغير واع لما يقوم به.
تبدأ المحاكمة اليوم لمجموعة من النواب والوزراء يمثلون سلطة شرعية منتخبة. وهذه المحاكمة التي تريد منها «إسرائيل» إثبات براءة سياستها العدوانية واتهام القوى المناوئة للاحتلال بأنها هي الطرف المسئول عن جريمة ارتكبت منذ أكثر من عاماً بالشعب الفلسطيني. فالمحاكمة إذاً تستهدف تزوير الحق وإثبات الباطل وشرعية «دولته» وحقها في استكمال تلك السياسة التي تأسست على مجموعة أباطيل ومخالفات للحقوق الإنسانية مستخدمة القوة في مواجهة العدالة.
هذه العدالة تدّعي الولايات المتحدة أنها تريد نشرها في المنطقة من خلال مشروع التقويض للعلاقات الأهلية باستخدام منطق القوة. والأقوى هو من يفرض قانونه وشروطه على الاضعف. فالعدالة هي للقوة في منطق إدارة واشنطن ومن لا يملك القوة لا يحميه القانون الدولي. هذا المنطق الخطير الذي تعقد على أساسه محاكمة اليوم يوجه رسالة إلى شعوب المنطقة تعطي ذريعة قوية لكل الهيئات السياسية بإعادة النظر في توجهاتها العامة والبدء في تأسيس قراءة تميل إلى ترجيح منطق التطرف واتباع المزيد من العنف في التعامل مع القضايا العادلة.
قيام «إسرائيل» غير القانوني وغير الشرعي على أرض مسلوبة أسهم منذ أكثر من نصف قرن في إطلاق موجة من الحركات السياسية القومية التي اعتمدت منطق القوة للثأر من النكبة. فهذه الدولة المخالفة للعدالة كانت الذريعة التي أعطت شرعية ايديولوجية للكثير من المنظمات العربية أن تتبع أسلوب العنف في استرداد حقوقها. واستمر هذا المنطق يعيد إنتاج نفسه في سياقات مختلفة اتخذ من محطات تاريخية نقطة انطلاق لتجديد فكرة القوة وتغذية منطق العنف في التعاطي مع الشئون الحياتية والمصيرية. وهذا المنطق العنيف كان يجد دائماً في السياسات الإسرائيلية والمسلكيات الأميركية مادة تغذي ذرائعه وتعطيه القوة في استكمال مسار عام تورطت فيه المنطقة منذ أكثر من نصف قرن.
اللجوء إلى القوة المضادة لمواجهة منطق العنف الذي تتبعه «إسرائيل» في سلوكها العام تتحمل مسئوليته تلك العلاقات الدولية التي كانت تستثني هذا الطفل المدلل والثقيل الدم من القاعدة العامة المتبعة في محاكمة الدول. وأميركا تعتبر هي الحارس الأمين لتلك المخالفات الدولية التي ترتكبها «إسرائيل» ضد العدالة والحقوق. وآخر تلك المخالفات كان ذاك «النموذج» التدميري الذي أسسته في العراق. وما حصل ويحصل في بلاد الرافدين هو نتيجة منطقية لسياسة تقويض العلاقات الأهلية من «الخارج». واستخدام القوة لتعطيل المسار التاريخي/ الطبيعي للتطور يعطي الذرائع لكل القوى السياسية التي ترى أن العدالة تحتاج إلى قوة لحمايتها والقوة تعني الكثير من الوسائل والاتجاهات العنيفة في التعامل مع القضايا.
تقويض الدول من الخارج وتحطيم البنى التحتية بالضرب من بعيد ومحاكمة نواب ووزراء باسم «عدالة» باطلة... كلها سياسات تؤسس لنمو ايديولوجيات متطرفة ترى في اتباع العنف وسيلة شرعية للثأر والانتقام.
ما حصل في العراق من تقويض وتحطيم وتدمير، وما يحصل في القطاع من تكسير للمرتكزات الأهلية والمدنية للسلطة الفلسطينية، وما سيحصل اليوم من مشهد تطل فيه وجوه نواب ووزراء اختطفتهم آلة الحرب الإسرائيلية وجمعتهم في قاعة محكمة تأسست على الباطل... كل هذه الصور المخالفة لأصول المحاكمات وشروط العدالة والقوانين والشرائع الدولية ستتشكل منها لاحقاً ذرائع تبرر العنف وتدافع عن التطرف، وتعطي فرصة لكل تلك التيارات الايديولوجية التي تقوم فلسفتها على الثأر والدفع نحو استكمال صنع مواد تفجير وأحزمة بشرية ناسفة وانتحار جماعي انتقاماً من «عدالة» القوة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1397 - الإثنين 03 يوليو 2006م الموافق 06 جمادى الآخرة 1427هـ