العدد 1396 - الأحد 02 يوليو 2006م الموافق 05 جمادى الآخرة 1427هـ

ايران: الثقافة وزبر الحديد والفصول الأربعة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما قال ييراس ريستريبو إن الديمقراطية «الكولومبية» تنفع برئيس ميت أكثر من انتفاعها برئيس هارب فالأكيد أنه نضح بشيء عظيم. وإذا ما استدعيت هامشاً من التفسير والتأويل فلربما أخلص إلى أن تفكيك الهروب (ليس الكولومبي بالضرورة) قد يشمل أيضاً أفعال الزعماء النزقة بحق شعوبهم، ودفعهم «للسعادة» لمجرد كونهم أحياء! فزير المال والقسوة البوليسية باتتا سمة طبيعية للمزكومين برائحة السلطة، ليبدأ هروبهم الحقيقي وبعادهم عن رعيتهم، وبحسب حكمة ريسترييو فإن أي نفع يرتجى من أولئك الهاربين يصبح سذاجة قاتلة واقتراباً نحو أفهام سياسية ليس لها حظوظ.

في إيران كان للشاه محمد رضا بهلوي شكلان من الهروب، الأول استمر منذ سبتمبر/ أيلول عندما تولي الحكم بعد أبيه وارثاً لحكم عضوض، ومستنداً لسياسة هزيلة عزلته عن ناسه وبني قومه إلى الحد الذي جعلته عاثر حظ بعينين بلا نور لا يرى سوى الجاه والسلطان، والثاني في يناير/ كانون الثاني العام عندما هم هارباً بقضه وقضيضه، متوسلاً مساعدة مستحيلة من الولايات المتحدة الأميركية ثم من الرئيس المؤمن الذي بدا فيما بعد بأنه أسوأ حظاً من صاحبه!

رجل من قم

في المقابل كان غريمه القوي روح الله الموسوي الخميني الذي شبهه هيكل بـ «الرصاصة المنطلقة من القرن السابع والمستقرة في قلب القرن العشرين»، شكل نموذجاً آخر في مقابل الهروب، فهو ومذ شب فقيهاً ومصلحاً اجتماعياً في عشرينات القرن الماضي لغاية وفاته في الرابع من يونيو/حزيران ، كان في نخاع العمل اليومي المباشر والعصيب، مقدماً زخات من المداراة للفقراء والبائسين، وبعدما سجي في قبره ببهشت زهراء، استمر ذلك الحضور من زاوية كارزمية فريدة، فكان قبره المبضع الأشـد رهبـة للثورة بكل تراجيدياتها، ومنه أخذت تنطلق الأحجيات والتوصيفات والتخليقات وحتى الروايات والعلامات... «رجـل من قـم يدعـو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح والعواصف ولا يملون من الحرب ولا يجبنون وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين»، (البحار، ج ، ص ).

عندما كنت في طهران زائراً قبل شهر لفتني بقوة مستوى التطويع الممنهج للدين، فالنظريات التي استخرجت من بطون الكتب الفقهية والأصولية لم تعد تحكم بحرفيتها التفصيلية، وإنما بخطها العام الخاضع لفضاء الضرورات والمستلزمات الزمكانية، ولم تعد المقاربات بين الواقع وما (لا) يخالفه من الدين أو العكس المستعاض الوحيد بدل (المطابقة) أو (المماثلة) بل إن الجو الديني (المزمن) لم يعد خياراً مباشراً للنظام الإسلامي في ظل صعود موجات بشرية قادمة من رحم التحولات السوسيولوجية والمفاهيمية التي يشهدها العالم، لا تفهم الأوابد التاريخية ولا اليقينيات والروحانيات، وبالتالي فهو يعي بأن الأكيد أنها لن تعود أبداً لأن تكون كالجيل الأول للثورة إلا بفعل معجزة خالدة يحدثها التعميريون، على رغم أنه (أي الدين) لم يتحول بعد إلى يوتوبيا تحول دون حضوره كواقع.

مدينة طهران التي تعتبر أكبر محافظات البلاد الثلاثين تغط في وهج ازدحام هائل، من دون أن يمنعك ذلك من أن تلتقط ما تريد من الأشياء التي يبدو أهمها حجم الفتوة التي تشهدها هذه المحافظة. فطهران مدينة «شبابية» بالمطلق، يهوى شبابها التبضع والتجوال بطاقة مهيبة، ثم إنها كثيرة الأشياء التي تحتاج إلى تفسير فيها، من بينها تكرار الأبنية البيضاء الشاهقة ذات النسق التقليدي المتماثل، التي تنتشر في أكثر من مكان بل وحتى في الأحياء الراقية والمهمة من العاصمة، لتعلم لاحقاً أنها أبنية تشيدها مؤسسة «الشهيد» أو «المستضعفين» المعنيتان أصلاً بأمور الأيتام وبعوائل من قضوا في الحرب مع العراق، أو في النزاعات الحدودية مع مهربي المخدرات أو مع منظمة مسعود رجوي.

المكتبة الوطنية

عندما تزور المكتبة الوطنية في العاصمة طهران والتابعة تنفيذياً لرئاسة الجمهورية بحجم وزارة مهمة، تشعر بأن هذا الصرح الثقافي مغلف بعيدان الند الحافظة. وعندما تتوغل في أشد أسرار بنائه خفية لا يبقى أمامك سوى أن تكبر ذلك، وبنيت المكتبة على هيئة بازار طهران القديم، بثمانية أدوار، أربعة منها تحت الأرض والأدوار الباقية في الأعلى، وبنيت بشكل هندسي معين بغية الاستفادة ما أمكن من ضوء الشمس ما دامت مشرقة، أما المقاعد الألف وخمسمئة المخصصة للباحثين فهي مصممة بمواصفات طبية توفر أقصى درجات الراحة للمرتادين. كما أن الحكومة الإيرانية استحدثت نظاماً ضد الحريق FM كنظام متطور في العالم، إذ يقوم بإخماد أي حريق متوقع في مدة لا تتجاوز الخمس ثوان. كما أن نظام التكييف في المكتبة مبرمج على أن تكون درجة الحرارة داخل خزائن الكتب والمخطوطات لا تتجاوز السبع عشرة درجة، بينما لا تتجاوز الحرارة في باحات المكتبة الخمس وعشرين درجة، بالإضافة إلى أن المكتبة وتسهيلاً لنقل وتسلم الكتب من قبل الإدارات والأقسام تحتوي على سيور جرارة يبلغ طولها ألف متر تتوقف في محطة.

في أحد الأقسام التي تضم مخطوطات نادرة، هناك السيد عظيمي على كرسي متحرك بسبب عاهة مستديمة أصابته أثناء الحرب العراقية الإيرانية، إلا أنه وعلى رغم إعاقته، يعد من الباحثين الثقافيين في إيران ويجيد اللغة العربية بقدر جيد، وهو يدير قسماً مهماً من المكتبة الوطنية، يضم ألف مخطوط، نصفها على الحجر، أما عموم المكتبة فتضم أكثر من مليوني كتاب وثلاثين ألف عنوان لرسائل وأطروحات أكاديمية (ماجستير ودكتوراه).

مستشار رئيس الجمهورية علي أكبر أشعري والذي هو أيضاً رئيس المكتبة الوطنية، قال إن أكثر من سبعين في المئة من مدارس إيران لا توجد بها مكتبات، إلا أن الخطة الموضوعة من قبل حكومة أحمدي نجاد قضت بأن تكون لكل مدرسة في إيران مكتبة، ورصدت لذلك موازنة كبيرة من الموازنة العامة للدولة.

مكتبة المرعشي الذي مات فقيراً

تعتبر مدينة قم المقدسة ( كم جنوب العاصمة) والتي يرجع تأسيسها إلى عصر الفيشداديين؛ الحاكم الروحي للنظام الإسلامي في إيران، فهي إلى جانب كونها ثاني أهم المراكز العلمية الدينية للمسلمين الشيعة (تحوي مرجع تقليد)، والحاضن الفعلي للحوزة الدينية ( ألف طالب علم) تشكل الموروث السياسي والثوري لحركة الإمام الخميني التي سبقت سقوط الحكم البهلوي في . ثم أن ثلث قضاة محاكم إيران هم من خريجي حوزة قم التي تضم مركز تأهيل القضاة أيضاً.

بعد جولة في مكتبات المدينة الغارقة في الرضا الرباني، ذهبت إلى مكتبة المرجع الكبير السيدمحمد حسين الملقب بشهاب الدين المرعشي النجفي الذي قضى حولياته التسعين بين الكتب والمخطوطات حتى جمع ألف (مخطوط) و ألف عنوان (مخطوط) اشتراها بسعر لم يكن قريباً إلى الإحسان بقدر ما كان يفوق طاقة البشر. وللعلم فإن هذا العالم عاش فقيراً بحد الكفاف، إلى الحد الذي منعه ذلك من أداء فريضة الحج لعدم استطاعته مادياً على رغم أن الأخماس التي كانت تجبى له كانت تعد بعشرات الملايين، فإنه وفي العام الذي التحق فيه بالرفيق الأعلى وهبت له أكثر من حجة من أناس محسنين.

على أية حال، المكتبة تعد ثالث أكبر مكتبة في العالم الإسلامي بعد مكتبتي سليمانية في تركيا التي تحوي ألف مخطوط، ودار الكتب المصرية (م) وهي تستقبل يومياً ما يربو على أربعة آلاف زائر من داخل إيران وخارجها. وقد حدثنا السيدمحمود نجل الإمام المرعشي أن أستاذاً من جامعة جورج واشنطن قدم إلى المكتبة قبل أيام باحثاً عن مخطوط نادر قيل له إنه موجود فقط في مكتبة المرعشي.

المكتبة لا تضم فقط كتباً دينية، بل إن حظوظ العلوم الإنسانية وعلوم الفيزياء والرياضيات وغيرها وفيرة جداً فيها، سألت أحد مصاهري العائلة المرعشية عن مصدر الدعم الذي تتلقاه المكتبة، خصوصاً أن عملية شراء الكتب والمخطوطات واستقبال الزوار والصيانة والبرتوكولات تتطلب مبالغ فلكية، بالإضافة إلى رواتب أكثر من موظفاً يعملون فيها، فقال: إن المكتبة لديها شيك (مفتوح) من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله السيدعلي خامنئي لشراء أي كتاب أو مخطوط ترى إدارة المكتبة أن اقتناءه مهم لها. كما أن الحكومة الإيرانية خصصت حساباً مصرفياً من الموازنة العامة للدولة بمبلغ مليار ونصف المليار تومان سنوياً (,, مليون دولار). ويعين البرلمان الإيراني في سبيل ذلك اثنين من ديوان الرقابة المالية للإشراف على حسن التصرف بالمال الممنوح. وأخبرني مسروراً أن المكتبة فازت هذا العام كأفضل مؤسسة في الجمهورية الإسلامية في دقة تصريفها للدعم الحكومي.

بالإضافة إلى العمل المتقن في خزائن المخطوطات والاحتياطات الأمنية والأنظمة المضادة للحريق والتلف، يبقى الشيء المثير للغرابة أكثر هو التقنية الفائقة التي روعيت في بناء المبنى الجديد للمكتبة والذي بناه الخبراء العسكريون الإيرانيون، فعلى رغم أن هذا المبنى مجهز بأحدث التقنيات فإنه أيضاً يتحمل هزة أرضية بدرجة () على مقياس ريختر، ويقاوم الضربات الصاروخية وعمليات التفجير، وبلغت كلفة بنائه ثمانية مليارات تومان (,, مليون دولار). وعلمنا لاحقاً أن الحكومة الإيرانية خصصت هكتاراً على الطريق بين قم وإصفهان لإنشاء جامعة متخصصة في تدريس علوم المكتبات والفهرسة.

من يزور إيران قد يفاجأ بأنها بلد يعيش الفصول الأربعة، وعلى رغم مجازية هذا القول فإنه من الناحية المناخية حقيقة قائمة، فهذا البلد اعتاد العيش كرقم صعب لا يمكن تجاوزه حتى في أيام محنته، فكيف به الآن وقد استوت له معظم الطرق الوعرة التي كانت تشغله وتسلب النوم من عينه، وأثبتت التجارب له أن الحياة ما هي إلا جولات... لا تستقيم أيامها بالتماثل أبداً

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1396 - الأحد 02 يوليو 2006م الموافق 05 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً