في صمت وسكون، تتسلل الفريسة ببطء مترقبة، خائفة وحذرة مما ينتظرها، تمشي الهوينا تحسب خطواتها... وأنفاسها، حتى تقع من. دون أن تدري في قبضة تلك الشبكة، شبكة العنكبوت، فتختلط لديها الأمور، ولا تعرف أين هي البداية وأين هي النهاية، لا تعرف ما الذي تواجهه بالضبط، تشعر فقط بخيوط لزجة دقيقة بيضاء تحيط بجميع أجزاء جسدها، خيوط رقيقة جداً، معقدة جداً، لا تستطيع الفكاك منها، مهما حاولت، كلما قطعت خيطاً، تشابكت في يديها الصغيرتين خيوط أخرى، ووسط خوفها مما وقعت فيه، ربما تصرخ بجنون، ربما تتخبط، ربما تبقى حائرة عاجزة، وربما تستسلم في انتظار المجهول، بانتظار ذاك العنكبوت ليأتي، ويقضي عليها.
هل هذا هو حال المرأة العربية؟ هل وقعت في شباك عنكبوت؟ وأي عنكبوت؟ أي مجهول؟ وما هي تلك الخيوط التي تحاول النفاذ منها؟ وهل هي تحاول فعلاً النفاذ؟ وإلى أي مدى نجحت في ذلك؟
كل هذه الأسئلة مبنية على تلك النظرية، التي تشبه وضع المرأة العربية بوضع الفريسة وسط شبكة العنكبوت، شبكة تتخللها حلقات ودوائر، دقيقة أشد الدقة، معقدة أشد التعقيد، والنفاذ منها... شبه مستحيل.
تقرير المرأة العربية والحكم المحلي
في هذا العدد من «جهينة» نناقش دلالات تقرير المرأة العربية وصنع القرار في قضايا المشاركة السياسية والحكم المحلي للعام ، والذي يعتبر أحد أهم التقارير التي سيصدرها قريباً مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث (كوثر)، الذي يتخذ الجمهورية التونسية موقعاً رئيسياً له.
وفي المؤتمر الذي أقامه المركز في العاصمة الجزائرية الأسبوع الماضي، تمت مناقشة النتائج والدلالات الرئيسية للتقرير، وسط حضور من مختلف الدول العربية.
«جهينة» حضرت هذا المؤتمر، الذي تمت فيه مناقشة هذا التقرير الذي وصل إلى مراحله النهائية وسيتم إطلاقه مع نهاية العام الجاري. ويعتبر هذا التقرير مشروعاً إقليمياً شمل خمس دول عربية، هي: الجزائر ومصر ولبنان وتونس واليمن، وتركزت جهوده على تحديد مفهوم الحكم المحلي وتبادل الآراء والتشاور بشأنه لكونه مفهوماً جديداً في العالم العربي وذا دلالات مهمة بالنسبة إلى مسألة مشاركة المرأة في الحياة العامة وصنع القرار.
ضمن فعاليات المؤتمر، وضمن المناقشات بشأن دلالات هذا التقرير، ناقش المنتدون وقوع المرأة العربية فعلاً ضمن براثن «شبكة عنكبوت»، قد تكون غير مرئية، لكنها موجودة.
يقول أستاذ علم الاجتماع ودراسات المرأة في جامعة بيرزيت الفلسطينية نادر سعيد إن كثيراً من الأشخاص يستسهلون لوم النساء على أوضاعهن، وهو اتهام يعتبره ساذجاً وبسيطاً، إذ إن المرأة برأيه مضطرة لمواجهة صعوبات وعقبات في دوائر متعددة، لا تملك بيديها حيلة لدفعها، تماماً كالفريسة في شبكة العنكبوت.
حلقات متشابكة... كشبكة العنكبوت
يؤكد سعيد أن القاعدة التي تحكم علاقة المرأة بالأشياء في المجتمع تحكمها «السياسة»، فكل شيء يحيط بها «سياسي». وتبدأ هذه الحال من علاقتها مع جسدها وذاتها، فتحكمها في معظم الأحوال دوائر تقيد حريتها، تسيطر على حركتها، تتحكم في لباسها وحديثها وقراراتها، ومثال ذلك ما يحصل من تزويج الصغيرات اللاتي لا حول لهن ولا قوة. ثم تمتد حال السيطرة إلى الأسرة التي تتخذ غالبية قراراتها باستثناء النساء، ثم العائلة أو العشيرة، والمجتمع المحلي، والمؤسسات المدنية والاجتماعية، ثم الأهم التشريعات والقوانين التي تتحكم في مصيرها، من قوانين العمل، والتقاعد، والرواتب، وقانون الأحوال الشخصية وما إلى ذلك. وصولاً إلى السياسات الوطنية، ثم القرار العربي والنظام العالمي والدولي ككل. فالمرأة العربية محاطة في نظره بشبكة من العلاقات المعقدة التي تؤثر على حياتها ووضعها الاجتماعي.
إنجازات المرأة العربية... هلامية
لأن الوضع الاقتصادي لأي جماعة أو فئة في المجتمع يعود بالضرورة سلباً أو إيجاباً على وضعها الاجتماعي وحتى السياسي في هذا المجتمع، يرى سعيد أن طبيعة النظام الاقتصادي العربي مركب ومبني بطريقة تدعم مجموعات معينة دون أخرى، وهي بالضرورة مجموعات «ذكورية» ضمن طبقات وفئات ومراحل عمرية يحددها هذا المجتمع.
هذه البنى الاقتصادية، هي أساس التغيير من وجهة نظر سعيد، فمن دون تغيير البنى الأساسية، لا يمكن أن يتم أي تغيير آخر على مستوى المرأة العربية «الفرد». ويؤكد في هذا الصدد أن الفروق الفردية بين النساء في المجتمع العربي هي التي تفسر الوضع الهلامي الذي يمكن أن يوصف به ما حققته المرأة العربية. فحصول بعض النساء على بعض المكتسبات لا يعني بالضرورة أن وضع النساء تغير، ولكنه يعني أن المساحة بدأت تعطى بشكل أكبر للإنجاز، غير أن البنى الأساسية لاتزال طبقية، ذكورية ولاتزال المرأة تحاول التسلل من «شبكة العنكبوت».
يقول سعيد أيضاً «من دون حصول مساواة اقتصادية حقيقية بين النساء والرجال لا يمكن أن تتغير أوضاعها»، مشيراً في هذا الصدد إلى أن النساء يساهمن بـ في المئة من الناتج الاقتصادي في العالم، ويملكن في المئة فقط من الدخل، ويسيطرن على في المئة فقط من الثروة في العالم. أما في الوطن العربي فالوضع أسوأ بمراحل، فهو يعتبر أكثر مناطق العالم انخفاضاً في مساهمة المرأة في قوة العمل، فيما تنال المرأة العربية أكبر نسبة خصوبة «قدرة انجابية» في العالم، وأكبر نسبة أمية أيضاً.
سباق غير عادل
«السباق بين المرأة والرجل في المجتمعات العربية ليس عادلاً على الإطلاق، وخصوصاً في الوصول إلى سدة القرار السياسي»، هذا ما يراه سعيد، معقباً أن المرأة تعاقب على كل شيء، حتى على تفوقها. ولذلك لا يمكن بأي حال المقارنة بين وضعها وبين وضع الرجل.
والتغيير في مساهمة المرأة وأوضاعها في العالم العربي، لم يصاحبه برأي سعيد تغيير في أدوار الرجال، فمازالت أدوارهم خارج الأسرة، وعلى رغم خروج المرأة للعمل خارج المنزل، لم يتبدل الأمر لتقابله عودة من الرجل للمساهمة في الأعمال داخل المنزل، الأمر الذي زاد الأعباء على كاهل المرأة.
الوصول إلى مواقع القرار لا يعني القدرة على «صنعه»
يقول سعيد إن غالبية الباحثين والإعلاميين ينظرون إلى مفهوم «صنع القرار» على أنه تمكين المرأة من الوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي، وهو أمر برأيه مهم إلا أنه لا يعني بالضرورة قدرتها على صنع القرار. فهي برأيه عملية متداخلة بين المجالين الخاص والعام والحكومة والاقتصاد والمجتمع المدني.
فمثلاً «حتى لو دخلت النساء البرلمان ربما لا يمكنهن تغيير قانون الأحوال الشخصية»، أي أن وصولهن لموقع صنع القرار لا يعني بالضرورة قدرتهن على صنعه.
في هذا الصدد يقترح سعيد، بناء على التقرير -الذي نقوم بشرحه-، توسيع المفهوم، ليشمل جميع تلك الحلقات المتداخلة التي تؤثر في صنع القرار، بدءاً بتغيير أوضاع النساء على مستوى الأسرة والمجتمع، والاقتصاد، وإعادة النظر في أدوار كل من الرجال والنساء، وكل ذلك لخلق بيئة تتيح للمرأة ألا تصل إلى موقع القرار، من دون أن تستطيع اتخاذه».
وتعليقاً على تسابق الحكومات العربية الحالي على تعيين نساء في مواقع صنع القرار، من دون كفاءة حقيقية لهن أحياناً يقول سعيد إن الحكومات العربية «غير ديمقراطية» وتستخدم الرجال والنساء لتثبيت أجندتها وتوسيع تحالفاتها. ولم تشعر تلك الحكومات برأيه من قبل بضرورة عقد تحالفات مع النساء في السابق، لكنها قامت في العقود الثلاثة الأخيرة بعقد مصالحة مع النساء بناء على ضغوط دولية اضطرتها لتوقيع مواثيق للإصلاح كان تحسين وضع المرأة ضمن أهم بنودها. إلى جانب سبب آخر يذكره سعيد وهو أن النساء صرن أكثر تنظيماً في المجتمعات العربية وبدأن ينضممن إلى الأحزاب السياسية لتحصل الفجوة بين المستوى الذي وصلت إليه المرأة، وبين وضعها الاجتماعي والقانوني في الدول. ولأن الحكومات تريد ترويض هذه المطالب النسوية والدولية معاً، فقد قررت إدخال النساء ضمن منظومتها الرسمية.
ويعتبر سعيد هذا النوع من الإدخال «تزيينا على النوافذ»، إلا أنه مهم برأيه لأنه يشكل رمزاً للتغيير، وإذا كان التزيين بداية لتعديل الواقع فلا بأس به، لكنه يبقى غير كاف، فتنقصه مراحل طويلة من التدريب وتعليم النساء ورفع كفاءتهن.
هل تشربن قوانين اللعبة الذكورية؟
هل على المرأة عندما تدخل مجال العمل السياسي أن تسير فيه وفق قوانين اللعبة التي وضعها الرجل، أم يمكنها أن تضع قوانين «أنثوية» جديدة تسير عليها اللعبة؟ يجيب سعيد على هذا السؤال بقوله إن كثيراً من النساء الداخلات في عالم السياسة تشربن الثقافة الذكورية وبدأن يلعبن اللعبة السياسية بالقوانين الذكورية نفسها، من دون أي محاولة لإضفاء صبغة ذكورية على أدائهن أو حوارهن، وهذه هي المشكلة من وجهة نظره. فهو يرى أن النساء أكثر فهماً للحالات الاجتماعية وأكثر عدالة في حكمهن على الأمور، ويمكنهن تغيير الثقافة السياسية التي غلبت عليها أنانية الرجل.
لكن قد لا تملك النساء تغيير هذا الواقع، لأن الرجل يسيطر على القوانين مثلما يسيطر على المال، الذي هو أصل اللعبة كلها، ويعطيه المجتمع الحق في السيطرة على حقوق المرأة، وعقلها، موجداً آليات لقمعها إن هي خالفت. ويعقب: «واقع مشاركة المرأة في السياسة بثقافة ذكورية مفهوم، ولكنه غير مقبول».
هل تتخلص العربيات من «الشبكة»؟
يقول سعيد إن مواجهة المرأة لكل هذه الحلقات تتطلب جهداً كبيراً، ودعماً رئيسياً من الحلقات الأولية، فلو أرادت المرأة أن تجابه المجتمع، تتطلب مثلاً دعماً لا محدوداً من الأسرة، وهكذا. وأي تغيير حقيقي في أوضاع المرأة العربية، يجب أن يعني تغييراً على المستويات كافة بشكل متجذر. فلا يكفي وجود المرأة بشكل فاعل في المجتمع، من دون خلق فرص حقيقية، ترافقها التوعية والحركة الفاعلة وتغيير القوانين وتخفيف الأعباء عنها.
والمهم برأيه هو العمل لصالح المرأة العربية، فلا خجل من انتقاد واقعنا العربي لأننا نسعى لتطويره، على رغم وجود التباينات بين الدول العربية، ولابد من التوازن برأيه بين نضال الجانبين الر
العدد 1395 - السبت 01 يوليو 2006م الموافق 04 جمادى الآخرة 1427هـ