العدوان الاسرائيلي على الضفة والقطاع ليس جديداً فهو حلقة في سلسلة طويلة تمتد إلى أكثر من نصف قرن. ونجاح «إسرائيل» عسكريا في تدمير البنى التحتية واعتقال رموز السلطة الفلسطينية يعتبر خطوة إضافية في سياق تراكمي يقوم على معادلة سلبية. فحكومة إيهود أولمرت تعلم أن السلطة الفلسطينية لا تمك السلاح للدفاع عن شعبها وهي غير قادرة على مواجهة القوة التدميرية للجيش الصهيوني. ولكن الحكومة أرادت اختبار المدى الذي وصل اليه الضعف العربي. والاختبار كما يبدو نجح في قياس الحرارة واكتشف اولمرت ان الأنظمة العربية غير مستعدة لتجاوز العجز الذي لا تعترف به.
تحطيم البنى التحتية في قطاع غزة بالضرب الجوي عن بعد وشن هجمات سريعة لاعتقال رموز السلطة المنتخبة معطوفاً على إرسال الطيران الحربي للتحليق في الأجواء العربية، كله محاولات لاختبار ردة الفعل من خلال اختيار الحلقة الضعيفة في السلسلة. فحكومة أولمرت اختارت غزة لقياس مدى ترابط حلقات السلسلة التي تمتد من فلسطين إلى إيران. وهي لجأت إلى إجراء امتحان ميداني في الحلقة الأضعف حتى تختبر مدى قوة ذاك الترابط، وهل تمتلك السلسلة فعالية سياسية للرد أو هي على استعداد للاستنفار.
الاختبار الميداني كما يبدو توصل إلى تحديد خطوط المواجهة ونجح في عزل الحلقة الضعيفة عن السلسلة وكشفها سياسياً امام الشارع الفلسطيني. فالضربة التي تلقتها البنى التحتية ورموز السلطة وضعت حركة «حماس» في موقع ضعيف، إذ كشفت قدراتها الميدانية على المواجهة. وهذا سيؤثر عليها في المستقبل وخصوصاً في كيفية تعامل الشارع الفلسطيني مع الرموز التي اختارها لتمثيله في مجلس النواب والحكومة. فالضربة ستؤثر لاحقاً على مزاج الشارع وربما ستؤدي إلى إضعاف ثقة الناس بقيادة مختلفة وتبين في التجربة الملموسة ان امكانات «حماس» لا تختلف كثيراً عن تلك القوى السياسية التي سبق واختبرها في العقود الماضية.
«اسرائيل» إذاً حين قررت العدوان على البنى التحتية للشعب الفلسطيني واعتقال رموز سلطته (وزراء ونواب) بذريعة استرجاع جندي يحمل «الجنسية الفرنسية» كانت تراهن على الضعف العربي الرسمي الذي يعتبر حليفها السياسي الدائم مضافاً إليه ذاك الدعم الدولي المطلق وتحديداً من الولايات المتحدة. وهذا الرهان يقوم على معادلة سلبية تقوم على قاعدتين: الأولى الأنظمة صديقة لواشنطن والثانية واشنطن حليفة تل ابيب.
وعلى أساس هذا القانون المفارق شنت حكومة أولمرت عدوانها وهي مطمئنة إلى ان الرد العربي الرسمي لن يتجاوز حدود الكلام وان الوضع الدولي لن يتحرك، وإذا تحرك سيكون لمصلحة اعطاء الذرائع لـ «اسرائيل». فالعدوان إذاً مضبوط دولياً ومحكوم بشروط الضعف العربي. وهذا ما يفسر سبب تمادي تل ابيب في توجيه الرسائل السياسية وتوسيع دائرة عدوانها.
فالعدوان هو ضد الخيار الفلسطيني لكنه أيضاً يوجه رسالة سياسية إلى الدول العربية المشغولة بقضاياها الداخلية والمنهمكة بمطاردة المعارضة. فهذه الدولة العبرية تدرك تماماً مدى القوة العربية وتعرف أن القدرات التي تتمتع بها الأنظمة لا تتجاوز حدودها الداخلية. فالحكومات قوية على شعوبها وضعيفة أمامها. وعلى هذه المعادلة السلبية تراهن حكومة أولمرت في سياساتها واعتداءاتها المستمرة.
ما حصل في الضفة والقطاع كان من الصعب تصوره لو لم تكن «اسرائيل» واثقة من الضعف العربي وعدم مقدرة الأنظمة على تحويل كلامها إلى أفعال. وتل ابيب كما يبدو تعودت على سماع التصريحات اللفظية والكلام المنمق عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق الشعب الفلسطيني وحرية الناس في اختيار من يمثلها. فهذا الكلام ليس جديداً على تل ابيب. فهي سمعته مراراً وعارضته ولم تجد امامها تلك القوة القادرة على الدفاع عن كلامها. فالكلام عن الحقوق شيء والواقع العربي مسألة أخرى.
أساس قوة «اسرائيل» هو الضعف العربي، وهذه المعادلة توضح المدى الذي تستطيع ان تصل اليه حكومة اولمرت مقابل أنظمة اختصرت وظيفتها بمطاردة المعارضة وحماية سلطتها. وربما يكون الصمت العربي على الاعتداءات المتكررة والسكوت عن تلك الكوارث التي تلحقها يومياً بالشعب الفلسطيني هو بالضبط ما يزعج الدولة العبرية ويزيدها حيرة في تعاملها مع واقع ضعيف إلى درجة الاهتراء. فالاهتراء وصل إلى درجة الفضيحة السياسية ومع ذلك تواصل الانظمة تكرار مصفوفة من الالفاظ والمصطلحات من دون اكتراث للنتائج المترتبة على سياق الوضع العام وتحديداً تلك التداعيات الكارثية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني.
العدوان على الضفة والقطاع وجه رسائل سياسية كثيرة وفي اتجاهات مختلفة. فهناك رسالة إلى الداخل الفلسطيني ومحاولة اختبار لمدى قدرة «حماس» على ادارة الصراع. وهناك رسالة إلى الوضع العربي واعادة كشف أوراقه أمام الناس وفضح الأنظمة العاجزة حتى عن الكلام. وهناك محاولة اختبار لمدى تماسك تلك السلسلة وحدود التعاون أو التجاوب لمواجهة مخاطر تتعرض لها حلقة من حلقاتها.
اختارت حكومة اولمرت المساحة الأضعف لاظهار قوتها واستعدادها لتوسيع دائرة عدوانها وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن القانون لايزال يسير وفق المعادلة السلبية التي تأسست عليها الدولة العبرية ونجحت في المحافظة على إفرازاتها خلال أكثر من نصف قرن.
هذا جانب من الاختبار. اما الجانب الآخر من وجه المعادلة فلايزال على حاله وهو: لا سلام في المنطقة من دون بناء قوة ذاتية قادرة على الرد وتملك الامكانات ومستعدة للدفاع عن الحقوق ميدانياً وليس كلامياً
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1394 - الجمعة 30 يونيو 2006م الموافق 03 جمادى الآخرة 1427هـ