العدد 3449 - الأربعاء 15 فبراير 2012م الموافق 23 ربيع الاول 1433هـ

ثقافة الاحتيال

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

بينما كنتُ أجول في قراءة بعض صحف المغرب العربي قبل أيام، لفتني خبرٌ غريبٌ نشرَته صحيفة «نور أنفور» الموريتانية. الخبر يقول: إن مواطناً موريتانياً يُدعَى «بن سيدي محمد» تمكن من الاحتيال على مقاولين ورجال أعمال جزائريين، ليستولي على مبالغ مالية ضخمة، وصلت إلى 400 مليون أوقية موريتانية (الدولار الأميركي الواحد يُساوي 294 أوقية)، بعد أن أوهمهم بأنه ساحرٌ، وأنه قادرٌ على إخراج الكنوز من باطن الأرض كما يذكر الخبر المزبور.

وتنقل الصحيفة التفاصيل عن صحف جزائرية، أن عمليات الاحتيال التي كان ينفذها الرجل، كانت تقوم على اصطحاب ضحاياه إلى أماكن في الصحراء، وإخبارهم بأنها تحوي كنوزاً ثمينة اكتشفها هو بما يمكله من دالة السحر، في الوقت الذي أخفى عنهم حقيقة أنه قد سبقهم إلى تلك المواقع ليضع فيها قطعاً ذهبية قبل مجيئهم إليها بمعيته، ثم يتركهم يبحثون بأنفسهم في المواقع المسَمَّيَة ليكتشفوا بأمّ أعينهم تلك القطع الذهبية، فيكسب المحتال ثقتهم بذلك، ويبدأ في طلب مبالغ مالية كبيرة للكشف عن كنوز أخرى.

وقد تمكن المحتال بهذه الطريقة الخادعة اكتساب ثقة الكثير من رجال الأعمال والمقاولين الذين منحوه مبالغ مالية كبيرة في آخر وجبة احتيال قام بها، حيث اختتمت الحيلة، بطلبه منهم (رجال الأعمال) الانتظار لمدة أربعين يوماً حتى يكمل المهمة، ويأتي لهم بما وعَد، ليختفي بعد ذلك. على رغم أن الأمن الجزائري (كما تذكر الصحيفة) قد أحسّ بتحركات الرجل المحتال المريبة بعد أن تسبب في إفلاس عدد من رجال الأعمال! لتبدأ سلطة الضبط القضائي بمنطقة غرداية (600 كلم جنوب العاصمة الجزائر) في متابعته، إلا أنه تمكن من الإفلات من قبضتها والفرار في اتجاه ولاية آدرار الجنوبية قبل أن يختفي أثره. انتهى خبر الصحيفة.

هذه القضية مدخل للحديث عن ثقافة الاحتيال بصورة أخرى. ربما يعتقد البعض، بأن الاحتيال ينحصر فقط في المسائل المالية، إلاَّ أن الموضوع أكبر من ذلك، بشموله قضايا سياسية ودينية أيضًا. فالاحتيال في السياسة كما الدين، واسع ويفوق بأضعاف ما تثبته تجارب الاحتيال المالي. بل إن قضايا الاحتيال المالي، ربما يتورط فيها شخصان، أو خمسة، لكن قضايا الاحتيال السياسي والديني، فإن المتورطين فيها أتباع ومريدون كُثُر، تتجاوز أعدادهم في أحيان كثيرة مئات الآلاف، بل وحتى الملايين من البشر، خصوصاً في الدول كثيرة النفوس، وتتبذر من أجلها ثروات بلدان كاملة، خصّ الله شعوب تلك البلدان بها ولأجيالها.

في العام الرابع والستين الميلادي وقع حريق روما الشهير الذي استمرّ لمدة أسبوع وأتى على عشرة أحياء من أصل أربعة عشر حياً هي مجموع أحياء مدينة روما، ومات بسبب ذلك الحريق آلاف الناس. كان الفاعل هو نيرون، خامس أباطرة الإمبراطورية الرومانية من السلالة اليوليوكلودية. إلاَّ أن هذا الديكتاتور استطاع ومن خلال آلة دولته الضخمة بث إشاعة كاذبة، اتهم من خلالها المسيحيين في روما، من أنهم هم الفاعلون الحقيقيون والمتسببون في ذلك الحريق. وقد صدَّق الرومانيون تلك الكذبة، وتمّ تجييش الشعب الروماني عن بكرة أبيه ضد المسيحية الحديثة وأتباعها، طيلة أربع سنوات، حيث ذاقوا كل أنواع العذاب، والسجن، والقتل. وقد كانت تلك الكارثة الرهيبة ناتجة عن احتيال سياسي خبيث قام به سياسي.

نتذكر أيضاً، ما قام به السناتور الجمهوري الأميركي جوزيف مكارثي في مطلع الخمسينات، عندما ادعى على 267 أميركياً، من خيرة الخبرات الرأسمالية على أنهم متورطون في أنشطة شيوعية معادية للرأسمالية الليبرالية، الأمر الذي، أحدث شرْخاً في الثقة، وداخل البنية السياسية للدولة الأميركية وهي تخوض حرباً باردة، في حين، أن تلك الادعاءات لم تكن سوى أوهام غير صحيحة، سَرَتَ كالنار في الهشيم دون أيّ دليل، ولا مُسوِّغ قانوني. وربما اقترنت تلك الحادثة، بمصطلح المكارثية اليوم، الذي بات يدلّ على حملات القمع والترهيب بحق المعارضين.

اليوم، تمارس العديد من الأنظمة الميكيافيللية والاستبدادية «الاحتيال السياسي» من أوسع أبوابه. تنادي بالديمقراطية في بلد لكنها تقتل مليون ونصف مليون، وتدعم أنظمة مستبدة في بلد آخر. تجيز شتم الرَّب لكنها لا تجيز التشكيك في الهولوكوست. أنظمة تشعل العرقيات والإثنيات والمذاهب بعضها ببعض كي لا تصل لها أصوات الثورات ومطالبات التغيير باتجاه الديمقراطية والعدالة. أنظمة تدمن على عبادة الفرد، وتقديس القائد الأوحد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكأن كلّ شيء مُسَخَّر له دون غيره.

أما الاحتيال في الدين، فحدث ولا حَرَج. فكثير من أدعياء الدِّين، يتلاعبون بالإفتاء، والنُّصْرَة كيفما شاءوا وشاءت مصالحهم، لا كيف يشاء الشرع. يثيرون الأحقاد بين الناس، بدل أن يُسكِّنوها. يؤلبون المذاهب على بعضها، دون أن يلجموها. ويُكرِّهون الناس في الفتوى دون أن يُحبِّبوها. ويتنسَّكون بالعبادة رياءً. ويُمهِرون جباههم بالثفنات إيهاماً، ويتلمَّظون التقوى كُرهًا وكأنها ملح أجاج. يدَّعون سعة العلم وبسطة الحكمة والفراسة ونفاذ الرأي وهم خواء. هؤلاء ليسوا رجال دين، ولا سَدَنَتِه بالحق، إنهم محتالون من كُوَّة الدِّين، وهو منهم براء.

لاحظوا مصائب الشعوب، ممن تجنح في تركيبتها إلى التديُّن والمحافظة، وخصوصاً في الشرق الروحي. سترون أن هذا النمط من رجال الدِّين، هم من يسوق الناس إلى الافتتان والتناحر والاقتتال والعنف، على قضايا تاريخية وعلى قضايا سياسية واجتماعية خاسرة، لا هدف منها ولا مصلحة فيها. هذا الأكليروس واللاهوت غير المنضبط، هو وبَالٌ على المجتمعات الشرقية، لأنه الخزان الذي يغذي كلّ هذه العصبيات، والتقاطعات النفسية بين الناس. وقد حق للأوروبيين قبل قرنين من الزمان، أن يلجموه من نابولي في إيطاليا إلى نيكاراغوا في أميركا اللاتينية، عندما وصل بهم الحال إلى مديات مخيفة. فأيّ احتيال أكبر من هذا الاحتيال.

قصارَى القول، أننا مبتَلون باحتيالات أخرى غير تلك الواقعة في القضايا المالية. احتيالات سياسية ودينية تؤرق المجتمعات وتعقِّد من حياة الناس. وهو بلاء آن له أن ينجلي عن صدور ضحاياه، وأيضاً آن لأبطاله من السياسيين والدينيين أن يستحوا قليلاً. هنا أتذكر ما قاله الشاعر والسياسي الإنجليزي جوناثان سويفت عندما قال: لا أتعجب لكون المرء شريراً، لكنني كثيراً ما أتعجب لكونه لا يستحي

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3449 - الأربعاء 15 فبراير 2012م الموافق 23 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:45 م

      أشد

      لاكن أشتاذ المتلبسون برداء الدين هم أشد أحتيالاً لانهم يتسترون بعبائة الدين وفتواهم تبقي في العقول خصزصا الامعة المُسيرون

    • زائر 3 | 10:18 ص

      أحسنت

      لم اكن من متابعيك للأسف، ولكن بعد هذا المقال تأكد أنني أصبحت من أشد معجبيك

    • زائر 1 | 1:54 ص

      ابدعت

      تحية لك ايها الكاتب المبدع,مقال و لا اروع

اقرأ ايضاً