في الحقد، الانفعال، التشفي، الانتقام، لا يمكن لأي منَّا أن يرى ما أمامه عدا ما حوله. كيف يمكن لك أن تصنع الحياة وتؤثّر في مجرياتها حين لا ترى أمامك. لا ترى ما/من حولك. حين ترى العدم هو الشاخص والماثل؟ هل ثمة رؤية هنا؟
قبل مئات القرون من تسيّد جهلةٍ حياةَ الناس بفعل البطش والقوة والنفوذ لم تكن الحياة حياة. كانت وهم حياة. اليوم في الألفية الثالثة في العام 2012 تستنسخ اللحظات تلك بكل ذهنيتها وتوجهاتها وقناعاتها. كأنْ لم تحدث كل قفزات المعرفة أي أثر يذكر. كأنها عمّقت من حال انحياز الإنسان إلى مكانه الأول وذهنيته الأولى في غابة يرى فيها مداه النهائي ومعرفته الأصيلة.
ثمة ارتداد. ثمة تراجع. ثمة حنين للممارسة، للبيئة، للمكان الأول الذي شكّل ذهنية التوحّش في عصر من المفترض به أن يكون تجاوز كل ذلك بمراحل ضوئية. لا مراحل ضوئية في الأمر. تكاد المراحل الظلامية تهيمن على المشهد. مشهد الإنسان وهو يمعن في إفساد وتلغيم الحياة من حوله، في توهّم أنه يحصِّن وجوده وقدرته على الذهاب حتى النَفَس ما قبل الأخير لجعل الحياة حيّزا دافعا ومنشطا للانتحار أو على أقل تقدير حافزاً للافساد في العلاقات وتحطيم قيم التواصل.
مشكلتنا أنه كلما احتدّت السياسة وانحرفت في مساراتها اليوم، صار التحرّز من النظر إلى التاريخ ضرباً من عقيدة لا يمكن النكوص عنها. تاريخ لا يخلو من بهيميته بل هو أبعد منه بمراحل.
يذكر جلال الدين السيوطي (توفي العام 911 هـ) في كتابه «تاريخ الخلفاء»:»أخرج الخطيب عن منصور البرمكي قال: كان للرشيد جارية، وكان المأمون يهواها، فبينما هي تصبُّ على الرشيد من إبريق معها والمأمون خلفه؛ إذ أشار إليها بقبلة، فزجرته بحاجبها، وأبطأت عن الصبّ، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال:إن لم تخبريني لأقتلنك، فقالت:أشار إليّ عبدالله بقبلة، فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه، فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم، قال: قم فادخل بها في تلك القبّة»!
ليست مسألة انتخاب مواقف من هنا أو هناك. التاريخ نفسه يترك لك انتخاب نماذج من عار لا يخلو منها. نماذج من اللاجدوى والتطفل والإمعان في المجون واستملاك الأشياء وقبلها البشر.
يذهب الواحد منا حدَّ اليأس، بعضنا يذهب حدَّ الإفراط في الأمل في نظره إلى مزاج يتحكم في مصائر أمم وليس الأمة التي ينتمي إليها. أي خلل يطول حيزاً بشريّاً هو بالضرورة إيذان بتمدد وإشاعة الخلل امتداداً إلى حيزات لا سطوة ومراقبة عليها، حيزات تنشد إعادة لملمة وترتيب فوضاها كي يتسنى لها إعادة صوغ مفاهيم وقيم تتماشى مع لعبة الضرورة وقيمتها الخاصة والمنقذة (وهماً) لعارها الذي تراكمه أنّى وجدت.
المشكلة ليست في الاستراتيجيات. المشكلة في من يضعونها لينجوا بأنفسهم؛ فيما المخلوقات لا تتوقع أن تصحو على متر من أفق. متر من محاولة احتجاج على هذا الارتداد الذي يطول كل شيء. يطول البشر جنباً إلى جنب مع ما يحيط بها.
كل محاولة للقفز على بديهيات التاريخ. كل وهم للقفز على المستقبل بمصادرة خيارات وحيوات الآخرين، هو ضرب من الوهم في جانبه المَرَضي. وهم يعيد أصحابه إلى سيرتهم الأولى، إلى حيث ينتمون: عالم غاب يشبه أرواحهم وذهنياتهم وطريقة تعاطيهم مع الحياة.
كل منا يحاول أن ينجو بنفسه؛ لكن باتجاه ما يمثل تحضّره وتميّزه ومكانه اللائق في الحياة والدور والفعل، تميّزاً على بقية المخلوقات؛ لكن ثمة من يحاول أن ينجو - متوهماً - أنه بتلك النجاة، بغضّ النظر عن أخلاقية الطرق المؤدية إليها، سيضع قدماً في طريق هي أقل من ألف ميل قبل الخطوة. ذلك وهم آخر.
أعجز أحيانا عن إدراك علاقة الإنسان بمحاولة ذهابه إلى المستقبل - أو هكذا أظن - وبين شهوة ارتداد إلى محيطه البدائي، بيئته الأولى (الغابة). ذلك أمر يدخلنا في مساحة إرباك. أليس كذلك؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3449 - الأربعاء 15 فبراير 2012م الموافق 23 ربيع الاول 1433هـ
ممتاز
إبداع و انتقاء جميل موسيقي رنان للعبارات.