بات الحديث عن الإسلام وثقافة التأسلم من الأمور التي تتطلب جدية في البحث، على اعتبار أن هذا المكون أصبح رافدا أساسيا في تشكيل عقلية وتصرفات الأفراد داخل المجتمع، والذي ظهر بشكل واضح في نسبة التصويت الكبيرة التي أدت إلى حصول الأحزاب الإسلامية على الغالبية في انتخابات ما بعد الثورة في كل من تونس ومصر والمغرب. والخطورة هنا لا تكمن في الدين الإسلامي كمكون لثقافة المجتمع، فهو أحد الديانات التي جاءت وارتقت بإنسانية البشر، وإنما تكمن في انه تباينت بشأنه عملية التفسيرات وهيمنت فيه التأويلات المرتبطة بالماضي، بصرف النظر عن مدى صحة مضمونها، وندرت فيه التفسيرات العصرية المدركة لسنن التطور للمجتمع البشري. والقرآن الكريم نفسه في آيات كثيرة أسس لهذا المبدأ، وهو مبدأ التعلم من تداول الأيام واستخلاص السنن والعبر والأحكام… وبالتالي احتكار الدين وتوقيف الزمن وتوقيف عقل المجتمع على فترة زمنية ترجع إلى السلف في تفسيراتهم وفي رؤيتهم للحياة والواقع يتنافى مع المبادئ العامة والقيم التي جاء بها.
وتتبدى عملية توقيف عقل البشر على مرحلة معينة من التاريخ في قضايا كثيرة لعل أبرزها قضايا خلط الدين وإقحامه في أمور تحتاج إلى استخدام العقل وليس الاتكال على تفسيرات كانت محكومة بظروف العصر التي ظهرت فيه...، وفي هذا الإطار يجب التمييز بين المبادئ والقيم التي جاءت بها الأديان، ومنها الدين الإسلامي، وبين الأفكار البشرية وما يستجد فيها من تطورات وتغييرات، حيث في الحالة الأولى الأفكار والقيم أمور ترتبط بالأساس بالفطرة البشرية وبالتالي فالقيمة نفسها المرتبطة بفطرة الإنسان قد لا تختلف في مضمونها في الماضي عنها عما هو موجود الآن... فمثلا قيمة العدل أو قيمة كالحرية كلها قيم مرتبطة بالفطرة، قد تكون تعرضت للانتكاسة في مراحل زمنية إلا أن الإنسانية دوما تسعى للتمحور حولها مهما كان الابتعاد لظروف مرتبطة بالاستبداد وسيادة الظلم.
ومن هنا فتاريخ القيم الإنسانية ليس لها جنسية واحدة تحتكرها، فهي ملك لكل البشر، وقد ساهمت في إثرائها ليس فقط الديانات السماوية وإنما غير السماوية أيضا، وتجارب الحضارات الإنسانية التي تعاقبت على مدار آلاف السنين، بما فيها الحضارات التي سبقت ظهور الديانات السماوية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الاسلام). فالسنن الكونية ليست مرتبطة في التصاقها بعملية التدافع والتفاعل في المجتمعات بنزول الديانات وإنما جاء ارتباطها بشكل أساسي مع بداية الخلق. ولذلك كانت السنن الكونية متحققة منذ هذه اللحظة والى الآن ونافذة سواء كان ذلك متوافقاً مع التفسيرات الدينية أو متعارضاً معها، مع التسليم انه ليس بالضرورة أن كل ما هو تفسير ديني يكون مرتبطاً بالحقيقة، فمسألة الرزق على سبيل المثال بمنطق الدين، لا تقتصر على فئة تدين بدين دون أخرى، ولا تقتصر على أصحاب الديانات السماوية دون الديانات الأرضية، ولا على المؤمنين دون غيرهم الذين لا يعرفون الخالق، فهذه السمة تعم الكل. فهي ترتبط بقوانين الحياة كالأخذ بالأسباب عند طلبه، بان يكون هناك سعي وبذل جهد للحصول عليه. وهذا منطق طبيعي لأنه إذا كانت هناك وحدة في الخلق، على سبيل المثال، للجنس البشري من حيث التكوين العضوي والشكل فذلك يستتبع أن توجد سنن كونية حاكمة غير سنن وقوانين البشر لا تستثني فئة عن أخرى فيما يتعلق بوجود هذا الإنسان .
ومن هنا فهذه الوحدة في السنن الكونية الحاكمة على الكل تدحض احتكار أي فئة للدين، وتجعل من كل الديانات بمثابة رسائل إرشادية في مسائل جاءت في فترات زمنية معينة لإرشاد البشر إلى اكتشاف حقيقة جوهرهم، ولعل أول شيء كانت تؤكد عليه هذه الديانات هي الحرية، ليس فقط من الاستبداد والقهر، وإنما حرية العقل بمعنى أن يؤمن المؤمن بالخالق عن طريق العقل والاقتناع وليس عن طريق الاتباع... إلا أن الخطورة كمنت أن عملية التدين تحولت إلى عادة واتباع، أصبح الدين بهذا الشكل، مع مرور الأيام ومع كثرة التفسيرات وتفشي الجهل والفقر، أداة لسلب عقل وإرادة البشر وتحويلهم إلى خاضعين ومستسلمين، ليس فقط أمام تفسيرات الدين بصرف النظر عن الصحيح منها والمشوه، وإنما أيضا أمام الأسطورة التي تقترن أحيانا به… وأصبح الإنسان البسيط في ظل هذه الظروف ضعيف وملجأه هو الدين. وبناء على ذلك تعاظمت وقويت سلطة كل من تكلم باسميهما أمام هؤلاء الضعفاء من البشر.
وترعرع السلطة الدينية هذا اخذ أشكالا مختلفة سواء داخل المؤسسة الدينية الرسمية أو خارجها عن طريق تفشي ظاهرة الإسلام السياسي في شكل جماعات وفرق تبني شرعيتها على نفس النهج المرتبط باحتكار الدين وبتفسيراته الماضوية، مستغلة في ذلك ضعف البشر الناتج عن الفقر والجهل وقمع السلطة السياسية لنشر فكرها، الذي لم تجد صعوبة في نشره ما أدى إلى أن أصبح الدين وكل ما يرتبط به من ممارسات بمثابة أداة تعبوية وحشد لأصحاب السلطة الدينية.
فتاريخ الأفكار يؤكد أن الصالح منها يجد طريقه التلقائي للتطبيق على ارض الواقع بدون فرض أو إجبار في دعوتها. ولعل ابرز الدعوات التي تحملها هذه الجماعات سواء المعتدل منها أو المتطرف هي الدعوة لعودة الخلافة الإسلامية. وتحت هذا المسمى أفكار كثيرة فضفاضة لا تمت بصلة للواقع الذي تنادي برفضه. فعند النظر إلى فلسفة الحكم في الوقت الحاضر في النظم السياسية الغربية نجد أنها تميز بين معنيين: الأول مرتبط بمضمون وجوهر عملية الحكم وتسيير شئون المجتمع. والثاني مرتبط بشكل هذا النوع من الحكم، حيث في المعنى الأول نجد انه حدث ما يشبه بمأسسة القيم الإنسانية الصالحة كالعدل والحرية، على سبيل المثال، في سلوكيات وثقافة المجتمع، الأمر الذي جعل من هذه الثقافة وهذه المؤسسات التي تترجم فيها، بمثابة القيّم على شكل عملية الحكم، وبالتالي الفرد الحاكم ما هو إلا تابع لهذا النظام الثقافي يتحرك وفقا له وليس هو المحرك له، ويتضح ذلك على سبيل المثال في نمط اختيار رئيس دولة عن طريق الانتخابات لفترة محددة ثم بعد ذلك يترك الحكم لرئيس جديد يأتي بانتخابات، وأيضا ظاهرة محاسبة هذا الحاكم وفقا لنمط مأسسة القيم والثقافة في المجتمع في حالة ما إذا ارتكب خطأ. وهذا يقترب أكثر بالمعنى الثاني المرتبط بشكل الحكم والذي يبدو ضعيفا جدا أمام المعنى الأول المرتبط بمأسسة القيم داخل مؤسسات وثقافة المجتمع تترجم كسلوك.
ومن خلال التحليل السابق يمكن تسكين المطالبين بالسلطة الدينية أو الدولة الإسلامية في إطار المعنى الأول ولكن بشكل معاكس، بمعنى انه ليس من المهم مأسسة المجتمع وثقافته بقيم كالعدالة والحرية وإنما المهم هو تسكين الشكل سواء في سلطة دينية تستلب هوية الأفراد، سواء تم ذلك في شكل خلافة إسلامية أو أي نوع آخر لشكل الحكم يهتم بالشكل على حساب المضمون وبالفرد على حساب المجموع وبالرأي على حساب الآراء وبالتفسير الواحد للدين على غيره من التفسيرات... ومن هنا يتأكد جوهر أن كل هذه المصطلحات الفضفاضة كالخلافة الإسلامية ما هي إلا خدعة كبيرة قد لا تحقق العدل والحرية بقدر ما تكون إطاراً تسلب فيه إرادة وحقوق البشر تحت مسمى الدين
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3448 - الثلثاء 14 فبراير 2012م الموافق 22 ربيع الاول 1433هـ