ندرك رهافة الجغرافية ورخاوتها، وخصوصاً في عقيدة تربّص القوى المهيمنة؛ لكننا يمكن أن نصنع تاريخاً يتجاوز صلابة الفولاذ.
***
بعضهم يتعامل مع التاريخ باعتباره نزهة في وقت فراغه. بعضهم يتعامل معه باعتباره وهماً أو كذبة. التاريخ لم يصنعه الفراغ. لم يصنعه الوهم. التاريخ في رصانته صنعه البؤس والمعاناة والحضور والانتباه وطوابير من الضحايا. لم يصنعه الطغيان والاستئثار والنبذ والتمييز.
***
ثمرة الحاضر أن تعيَ درس التاريخ. ألَّا تحتقره. ألَّا تهمل حاضراً مكشوفاً رخواً وتكابر بازدرائك للماضي. المستقبل لا يدخله بشرف المكابرون. يدخله الممسكون والواعون لحساسية اللحظات. حساسية الفعل والوعي.
***
الذين سيدخلون التاريخ بعد قرون ليسوا غرباء. إنهم حاضرون في لحْمة اللحظة وعضلتها. يحتلون المشهد ذهاباً وإياباً. يلقون تحيتهم على بؤس الحاضر والتباس أو ارتباك المستقبل. واثقون من فولاذ فعلهم ومائه، في ظل حاضر لا ماء فيه ولا فولاذ. فقط هي رخاوة العدم.
***
تحتاج إلى شجاعة فعل وهدف كي تحتل مكاناً في تاريخ غير مؤمَّم. غير مكتوب بأيد وأقلام لا يهمُّها وجهة الذهاب. لا يهمُّها أثر القبض لبسط الزور والكذب والنفاق ومحاولة معالجة تشوُّهات الحاضر وندوبه بمساحيق من كلام وسرد. حبر كأنه المشنقة. مشنقة تلتف حول عنق مستقبل لن يكون معافى بكمّ الألغام التي يضمها.
***
ماذا بعد؟ الثورات التي عرفها التاريخ وتترى في العالم اليوم تصنع مثلث الوقت والزمن: الحاضر، المستقبل، استلهاماً وقراءة ورصداً وفحصاً لماض ظل مهملاً وغير ذي بال أو معنى. الفرق أن أحدهم يقرؤه باعتباره قرص فاليوم ليأوي إلى نومه. البعض يقرؤه باعتباره مصدر سحر وتنشيط للتأويل، وإن كان تأويلاً يذهب هو الآخر في عماه وعدمه.
بعض ثالث يقرؤه وعينه على المستقبل، وبعض رابع تعيس لا يقرأ وإذا قرأ كمن لم يقرأ.
***
وكما أنه لا مستقبل للتنابلة وإن تسللوا إليه من طريق التهريب الشائع وغير الشائع في دنيا الناس ومنظومات الأمن المعهودة، ستنتظرهم غربة أشد وقعاً وإهانة وإيلاماً من الوقوف في طوابير ما بعد العدم.
***
لا مستقبل يمكن له أن ينشأ ببطالة و»تنبلة». لا مستقبل كذاك يمكن أن يكون مستقبلاً. إنه وهم مستقبل ولا يتسق الأمران ولا يلتقيان. الوهم غياب. المستقبل حضور نافذ وانتباه.
***
قلت ذات أمل، يأس، انفعال: «التاريخ لا يمزح». وأضيف، المستقبل هو الأجدر بألَّا يتورط في المزاح. للمستقبل شروطه الصارمة. لا يعتمد الملامح والأنساب وفصيلة الدم. التاريخ لا يعتمد المزاج في مساره المنطقي والثابت/المتحرك. يعتمد الصلابة والثقة والقدرة على الحجاج وتراكم البراهين وسعة التجارب. لا يعتمد الصدفة. التاريخ الذي يعتمد الصدفة سيقود إلى حاضر رخو ومستقبل لا ملامح ولا وجود له
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3446 - الأحد 12 فبراير 2012م الموافق 20 ربيع الاول 1433هـ