في تصريح للصحافة ذكر وكيل وزارة الإعلام الشيخ ناصر الصباح، أن هناك انعكاسات إقليمية على الانتخابات الكويتية، وطالب المرشحين المتنافسين بالنأي بأنفسهم وبالكويت عن التجاذبات الإقليمية والعربية.
فعلاً... فالكويت بما تتمتع به من هامش ديمقراطي وحرية تعبير وتعددية إعلامية، وبفعل تركيبتها السكانية والسياسية التعددية، كانت دائماً ساحةً لتنافس القوى الإقليمية، وتتأثر بالتطورات الخليجية والعربية.
الكويت جارةٌ لدول إقليمية كبرى هي إيران والعراق والسعودية، ويمتد تأثير هذه الدول إلى التركيبة السكانية والروابط المتعددة. وقد عمدت دولة الكويت إلى أن تحتفظ لنفسها بأكبر قدر من الاستقلالية عن الدول الثلاث، لكنا جميعاً نعرف قدر الجوار ومحطات مؤلمة كاحتلال عراق صدام حسين للكويت، وتعرض الكويت وسفنها وموانئها لهجمات متناثرة من الحرب العراقية الإيرانية، وذكريات ما تعرضت له من هجمات في العشرينيات من قوى دينية متشددة، ما اضطر أهلها لإقامة السور حول مدينة الكويت، وبعض بقاياه ماثلة للعيان.
الانتخابات الكويتية عقدت بعد عام من الربيع العربي، الذي كان ربيعاً خليجياً أيضاً. وكلنا يعرف أن الأحداث المرافقة للربيع الخليجي انعكست على الكويت وتفاعلت مع الربيع الكويتي، وعنوان ساحة الإرادة أمام مجلس الأمة.
لقد أثيرت قوى في الكويت مؤيدة لحركات التغيير في دول الخليج الأخرى، فيما أثيرت قوى أخرى ضدها والوقوف إلى جانب الأنظمة. الأخطر في الموضوع أن هذا الاستقطاب اتخذ عند البعض استقطاباً طائفياً، بحيث وقف الشيعة إلى جانب حركات التغيير وخصوصاً في البحرين، فيما وقف التيار الإسلامي السني إلى جانب الأنظمة، وشهدت الصحف والفضائيات حملات ومناظرات ساخنة، ووصل الأمر إلى المحاكم. والأخطر هو زجّ الدول المجاورة في الاستقطاب، والضغط على الحكم في الكويت لأخذ موقف ضد هذه الدولة أو مع أخرى.
وعلى رغم أن الحملات الانتخابية لم تبرز ذلك إلا أن مواقف المرشحين المتباينة تجاه هذا الحراك في الربيع الخليجي، كان على خلفية الحملات الانتخابية ويشار إليه تلميحاً. كما أن هذه المواقف أسهمت في الاستقطاب الطائفي والسياسي، وهو ما انعكس على نتائج الانتخابات من حيث تراجع التيار الليبرالي والمدني لصالح التيار الديني بمختلف اتجاهاته، ونجاح مرشحين كان لهم دورٌ بارزٌ في دعم الحراك الخليجي. أما الجانب المهم الآخر في الانتخابات الكويتية خليجياً فهو المتأتي من المثال الذي تقدمه الانتخابات الكويتية، واستتباعاً ما يمثله مجلس الأمة الكويتي قياساً بالمجالس التشريعية الخليجية الأخرى.
حساسية متضخمة
لقد لوحظ حضور جيد لمثقفين وسياسيين خليجيين في الحملات الانتخابية للمرشحين، وهم مندهشون من حيوية هذه الحملات وسقف الحرية المرتفع، والحضور الجماهيري الواسع، والصخب الإعلامي المرافق لها، بخلاف الحملات الفاترة والخجولة للحملات الانتخابية التي جرت في بلدان الخليج (التكميلية في البحرين، البلدية في السعودية، النيابية في الإمارات وعمان). ولاشك أن ذلك سيشحذ هممهم في المطالبة بالارتقاء إلى النموذج الكويتي.
أما الجانب الآخر فيتمثل في الحياد الصارم للحكومة الكويتية وأجهزتها تجاه المرشحين المتنافسين، ومختلف الاتجاهات والكتل السياسية والقبلية والمذهبية. وقد أشرنا إلى ذلك في المقال السابق (الجمعة). إن ذلك بخلاف التدخل القسري لأجهزة الدولة في الدول الخليجية الأخرى، ودورها الضاغط على العملية الانتخابية، وفرضها سقفاً هابطاً لحرية التعبير، وحظر التنظيمات والعمل السياسي (باستثناء البحرين التي حوصر فيها العمل السياسي المعارض)، بحيث إن الحملة الانتخابية أقرب ما تكون إلى استعراضات فردية، واستنفار للروابط التقليدية العشائرية، والمذهبية، وحملة علاقات عامة.
في حديثٍ مع أحد كبار المسئولين الكويتيين المسئولين عن العملية الانتخابية، أشرت إلى ضرورة طرح التجربة الكويتية سواء في إدارة الانتخابات، أو توفير أجواء الحريات أو وضع إعلام الدولة بتصرف متساوٍ للمرشحين، فردّ بحسرة: «يا معود هذول عندهم حساسيات متضخمة».
المتابعة الخليجية لا تقتصر طبعاً على الاحتكاك المباشر، بل إن النخب السياسية والثقافية وعموم المواطنين الخليجيين تابعوا الحملات الانتخابية والانتخابات الكويتية ذاتها، وشهد الفضاء الإلكتروني بشكل خاص نقاشات حامية. وهذا يقودنا إلى دور مجلس الأمة الكويتي المحوري في الحياة السياسية والشأن العام الكويتي، وهو ما تفتقده البرلمانات ومجالس الشورى الخليجية الأخرى.
طبعاً يحلو للمسئولين الخليجيين أن يركزوا على الجوانب السلبية بحيث يصوّرون الديمقراطية الكويتية بأنها فوضى، وأن مجلس الأمة ساحة مبارزة، لكن الحقيقة أن الكويت وبديمقراطيتها، استطاعت أن تكون على وفاق مع نفسها ووفاق ما بين الحكم والشعب.
ماذا تعني الانتخابات الكويتية عربياً ودولياً
اقتصر الحضور العربي خلال الحملات الانتخابية على وسائط الإعلام من صحف وفضائيات، في حين أن الحضور الدولي لم يقتصر على الإعلام فقط، بل تمثل أيضاً في متابعة ممثلين لمراكز بحوث غربية للانتخابات بما في ذلك وفدٌ برازيلي. وللعلم فقد كان الفريق الإسباني البحثي والصحافي مكوناً من 8 أفراد، ما يعكس اهتماماً بالغاً.
لقد راقب فريقٌ من العرب والأجانب الحملات الانتخابية والانتخابات الكويتية ذاتها، بالتعاون مع جمعية الشفافية الكويتية، وهو ما يعكس تعاوناً مشرفاً وبناءً بين منظمات المجتمع المدني المحلية والعربية والدولية. هذه المشاركة تدلّ على ثقة الكويتيين وخصوصاً السلطة بسلامة وضعهم، وفي الوقت ذاته تعكس اهتماماً عربياً ودولياً بمجريات الانتخابات ونتائجها، وهو ما اتضح في المؤتمر الصحافي لفريق المراقبة العربي والدولي في اليوم التالي للانتخابات. والأجمل هو التقاء الوفد بالمسئولين الكبار وعددٍ من المرشحين، وحضور بعض المسئولين في المؤتمر الصحافي، وتقبلهم برحابة صدر للانتقادات والمقترحات التي قدّمها الفريق من أجل تطوير العملية الديمقراطية وفي لبّها العملية الانتخابية.
الربيع العربي كان حاضراً في الكويت بقوة، وتفاعل مع الربيع الكويتي. وقد شهدت الكويت مسيرات واجتماعات جماهيرية تضامناً مع الثورات والانتفاضات في عدد من الساحات العربية مثل تونس ومصر وسورية واليمن. وكما كان هناك استقطاب تجاه الأحداث الخليجية فقد كان هناك استقطاب تجاه الأحداث العربية، لكنه انحصر على الحدث السوري، حيث أن هناك إجماعاً شعبياً كويتياً على دعم حركة التغيير في الساحات الأخرى. ولا ننسى أن ثلث سكان الكويت هم من غير الكويتيين، وغالبيتهم من العرب وخصوصاً من مصر وبلاد الشام واليمن وجاليات عربية أخرى... وهؤلاء يتفاعلون مع الحراك في بلدانهم، وقاموا باعتصامات أمام سفارات بلدانهم. كما أن للعرب حضوراً قوياً في الإعلام الكويتي وخصوصاً الخاص من صحف وفضائيات.
الدولة الكويتية تتأثر بما يجر على الساحة تجاه ذلك إلى جانب سياستها الخارجية. كلنا يذكر اعتقال مجموعةٍ من نشطاء ثورة 25 يناير المصرية إثر دعوتهم للقاء في أحد المقاهي، وإبعادهم لاحقاً، وردود الفعل القوية المناهضة لذلك.
وكما الشأن الخليجي، فقد كان الشأن العربي في خلفية صورة الحملات الانتخابية، ومما يشار إليه أن الكثير من المرشحين أشاروا إلى تراجع دور الكويت خليجياً وعربياً، خصوصاً دورها الثقافي التنويري، وذلك لانشغالها في الشأن الداخلي وانكفائها على الذات.
في ظل مجلس الأمة بتركيبته الحالية، فإنه يتوقع أن يكون الشأن الخليجي والعربي حاضراً بقوة، فالكويتيون يدركون أن ديمقراطية الكويت ستتطوّر إذا ما حدثت تحولاتٌ ديمقراطيةٌ خليجيةٌ بالدرجة الأولى، وعربيةٌ بالدرجة الثانية، وستضمر إذا ما ظلّت محاطةً بأنظمة الاستبداد.
تمتلك الكويت استثمارات تعود للحكومة (صندوق الأجيال) والقطاع الخاص في جميع الدول العربية تقريباً. من هنا فإن الأنظار تتجه إلى الكويت في تنشيط عملية الاستثمار في مصر وتونس واليمن، التي أطاحت شعوبها بالأنظمة الاستبدادية، وتشهد انتقالاً للنظام الديمقراطي، مع ما صاحب ويصاحب ذلك من تراجع اقتصادي وبطالة، لابد من التغلب عليها بسرعة حتى لا تنتكس التجربة.
كما يؤمل من الحكومة الكويتية الجديدة ومجلس الأمة الجديد، أن يتعاونا حتى يكون للكويت سياسية خارجية مستقلة وبناءة، تُسهم في عملية الحراك العربي لإخراج العرب من حالة الركود والتخلف والتبعية التي عاشوها على امتداد نصف قرن.
طبعاً لا نتوقع من الكويت بفعل توازناتها الدقيقة أن تكون مروحة للتغيير الثوري، ولكن قوة دافعة للتغيير الديمقراطي، وعدم دعم الأنظمة الاستبدادية، والتجاوب مع رغبات الشعوب، والبعد عن التبعية للأجندات الدولية الانتقامية في تعاطيها مع الربيع العربي.
وللكويت أيضاً دورٌ إقليميٌ تلعبه، بالعمل على عدم الانجرار لحرب جديدة في الخليج تكون إيران هدفها والخليج ساحتها، لحسابات أميركية إسرائيلية. من حقّ الكويت ودول الخليج أن تضمن أمنها وترصد المخاطر الإقليمية، ولكن انطلاقاً من مصلحتها وحقوقها وليس لحساب الآخرين.
الكويت يمكن أن تطوّر تجربتها الديمقراطية ومؤسساتها الدستورية نحو إمارة دستورية ديمقراطية، وبذا تقدم إسهاماً للعرب وللعالم الثالث، بأنه ليس محكوماً على العرب والمسلمين والعالم النامي بالتخلف والاستبداد. وأعتقد أنه من المفيد عمل دراسة مقارنة لتجارب ديمقراطية عربية (الكويت) وإسلامية (ماليزيا) وعالم ثالثية (جنوب إفريقيا أو أحد بلدان أميركا اللاتينية)... للاستفادة منها في دفع عملية التحول الديمقراطي في العالم النامي
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3445 - السبت 11 فبراير 2012م الموافق 19 ربيع الاول 1433هـ