أن تكتبَ عن سورية، يعني أنك تكتبُ عن العالم. نعم، فحين استخدَمت روسيا والصين «فيتوّهما الشتوي»، ضد قرار يدين سورية بصيغته العربية - الغربية، بدا أن العالم كله قد انشطر إلى سماطين، رغم أن الولايات المتحدة استخدمت هذا الحق 77 مرة، وبريطانيا 32 مرة، وفرنسا 18 مرة. سماطٌ يضمّ العرب والغرب، وسماطٌ آخر يضم كلاً من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تمثل كتلة بشرية تصل إلى الثلاثة مليارات من البشر.
هذا الاصطفاف، لا يُمكن قراءته وسط هذا الزحام الشديد من التصريحات بين السِّماطين. فالموضوع كبير جدًا، ويستحق إعمال النظر أكثر مما هو مبذول. ترى، ماذا تملك الجمهورية العربية السورية لكي يُفعل من أجلها كلّ هذا؟ فهِمنا لماذا فعل الأميركيون ما فعلوه من أجل العراق. وكذلك الحال بالنسبة لليبيا، وقبلها في تقسيم السودان. إنها الطاقة ومشتقاتها، والتي بها تعمل الصناعات العالمية الثقيلة، وتنشط التجارة البينية، وتبنى الاقتصاديات الرأسمالية والمختلطة، وتُراكَم العملات الصعبة في الصناديق السيادية.
سورية، فهي بالكاد دولة صناعية من العيار المتوسط، وفي المجالات النسيجية والهندسية، وإلى حد ما في المجالات البتروكيماوية والغاز بالتعاون مع حليفتها إيران. أما النفط السوري فهو لا يساوي أكثر من 400 ألف برميل من التصدير اليومي، وهو قابل للنضوب أكثر من غيره من المناطق طبقاً للدراسات الحديثة. كما أن الدولة السورية مازالت تستحوذ على نحو نصف عمليات الاستثمار، وبالتالي، فإن الموضوع من الجنبة التجارية ليس مغريًا بما يكفي.
بالتأكيد، لا يُمكن تبسيط الأمر لهذه الدرجة، لكن نحن نقابل ما هو موجود مع ما هو يُعَد من اهتمام عالمي لسورية، سواء من جانب الروس أو الأميركيين وحلفائهما. كما أننا نحاكي منتَظَمًا سياسيًا دأبت عليه الدول الكبرى في تغطيتها لأحداث العالَم، والذي عادةً ما يكون ذا طابع اقتصادي، يُدعِّم من مصالح الدول المتناطحة. لكن، يبدو أن هذا الأمر لا ينطبق على السوريين في أزمتهم الحالية، بالشكل ذاته الذي انطبق في السابق على غيرها من الدول.
حسنًا، لنأتي لموضوع الروس. ولنبدأ من الجذور. العلاقات الروسية السورية ليست طارئة. هي تمتد إلى العام 1945، حيث بدأ الأمر بالمبادرة السريعة للسوفيات للاعتراف باستقلال سورية. ثم تبادل المواقف الدولية إبَّان الصراع بين العرب و «إسرائيل»، وبناء الاقتصاد السوري، الذي كان ولايزال روسيًا بالكامل. وبعد طرد الرئيس السادات للخبراء السوفيات من مصر، كانت سورية هي المكان البديل لموسكو. وكان ذلك بمثابة التعويض الذهبي للسوفيات في ذلك التوقيت الحساس من الحرب الباردة، دون أن نغفل أيضًا أن العام 1963 كان مفصليًا في العلاقة بين البلدين، بوصول قطع بحرية سوفياتية إلى ميناء طرطوس.
لقد عكف السوفيات على بناء سورية ونظامها السياسي من خلال الدعم الدبلوماسي الدولي، وأيضًا تشييد اقتصادها، فبنوا سدودها المائية، وأقاموا مصانعها، وشيَّدوا فيها عشرات المشاريع الصناعية الكبرى، وربطوا مدنها الأساسية وأريافها بالسكك الحديد، ودرَّبوا كوادرها الحزبية على أحدث التقنيات العسكرية والاقتصادية، حتى أصبحت الأهمية السورية بالنسبة للروس في المنطقة، تساوي أهمية «إسرائيل» بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة أيضًا.
الشيء اللافت جدًا في هذه العلاقة، هو أن انحلال الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات، ومجيء روسيا الاتحادية التي أصبحت في جَيْب الغرب، وبالتحديد خلال عهد بوريس يلتسين، لم يُغيِّر ذلك من الناحية الاستراتيجية في تلك العلاقات، بل بقيت سورية في قوس الاهتمام الروسي، حتى ولو كان هناك تغيُّر طفيف في مسألة السلاح، نتيجة شروط أميركية كانت قد ألزمتها حكومة يلتسين، قبل مساعدة روسيا اقتصاديًا بعد انهيار الدولة السوفياتية.
هذه الأمور، جعلت لروسيا قاعدة متقدمة جدًا في المنطقة. فسورية، تمنح موسكو إطلالة بحرية مهمة باتجاه البحر المتوسط، حيث استخدمتها عندما كانت الشركات الروسية تسرح في الأراضي الليبية. كما أن سورية نافذة مهمة جدًا للروس باتجاه قضية الصراع العربي الفلسطيني. فعندما همَّش الأميركيون اللاعبين الروس من اتفاق أوسلو، بقِيَ لهم نصيبٌ في الجولان. كما أن العلاقة السورية الإيرانية، تمنح الروس خط اتصال، جغرافي استراتيجي من غرب آسيا بين دائرتي عرض 29°، 40° شمالاً، وخطي طول 40°، 63° شرقاً حيث إيران، إلى الجزء الجنوبي الغربي من قارة آسيا حيث الأراضي السورية. وهو أمر مهم لتواجد الروس في المنطقة.
أمام كلّ تلك المعطيات التاريخية لا يُمكن أن يتخلى الروس عن هذه البقعة من العالَم. صحيح أنهم وخلال هذه الأزمة حصلوا على عروض سياسية تقضي بحصولهم على بوابات مائية أخرى في تركيا، لكنهم يدركون أنهم ليسوا بحاجة إلى عروض طارئة وبمقاسات الأزمة الحالية، لا تتمتع بالضمانات الكافية. فالأتراك يُنصبون على أراضيهم منظومة الدرع الصاروخي، وبالتالي هي ليست بالضمانات ذاتها التي تتمتع بها تحالفاتهما التاريخية، وهو ما يجعلها عرضة للتبدل. هذا الأمر يبقى شيئاً مهماً في قراءة الأزمة السورية.
في كلّ الأحوال، الموضوع السوري قابلٌ لأن يتزحزح في جموده فيما خصّ الإشكال الدولي، لكنه بحاجة إلى ترتيبات وتنازلات قاسية. فالروس لم يعودوا قادرين على تحمُّل إهانة أكثر من إهانة تواجدهم في العراق بعد الاحتلال الأميركي له في العام 2003، وثم في ليبيا لاحقًا، عندما تمّ طردهم سياسيًا وشركاتهم الكبرى. وهو ما يجعل الأميركيين أمام تحدٍّ حقيقي، وكذلك الاعتراف بخطأ التهميش للآخر في مثل هذه الحيِّزات الجغرافية من العالم الحيوي
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3444 - الجمعة 10 فبراير 2012م الموافق 18 ربيع الاول 1433هـ
في الصميم
دائماً في الصميم أستاذ محمد.
مقال ممتاز كعادة الأستاذ محمد
و لكني ارى ان الجزء الأكبر من موقف الروس (بقدر ماهو المصالح بطبيعة الحال) ، هو انهم سأمو من ترتيب الأمريكان مصالحهم عسكريا و هم صامتون (العراق كان البداية و ليبيا القشة اللي قصمت ظهر البعير ) لذلك قررو في سوريا التدخل بأقصى مالديهم من قوة و الحفاظ على مصالحهم بدون مواربة (وخصوصا انها ليست بالهينة مثلما تفضلت بالذكر).
سوريا العظيمة
أخبرني أحد السوريين من جاوز عمره السبعين سنة ان اعياد المسلمين والمسيحيين كانت مضاعفة نتيجة قيام الطرفين بالاحتفال باعياد الطرف الآخر . هذه هي سوريا العظيمة
من واقع تجربة شخصية
سافرت سوريا عدة مرات امارس صلاتي امامهم واقرأ الادعية بصوت عالي لم يتدخل احدهم في شأني لا يوجد عندهم طائفية او فرق حتى في الجامعة يحبونك ويجعلونك واحد منهم رغم اختلاف المذاهب من شطر سوريا أمريكا والاعراب المتصهينين
يسلم مخك
دقتك في التحليل مذهلة و الاكثر اذهالا تجردك من العاطفة لقياس الامور
سؤال
السؤال هو ماذا على امريكا تقديمه لكي تكسب الروس الى جانبها ؟؟؟؟؟؟؟
تقدير
مقال رائع كالعادة استاذ محمد
تحليل موزون وغني المعلومات
كيف قسم العالم سوريا وكيف قسمت سوريا العالم
عنوانين لموضوع واحد ضحيته الشعب السوري عندما تستشري الفتن في بلد مثل سوريا البلد الذي كان شعبه كافر بل الختلاف المذهبي والديني والعرقي شعب من درعا الى باب الهوى لايعشق الا سوريا جبت هذا البلد من اخره لاخره مرات ما سمعت غير كلمة اهليين من الكل وبحريني على راسي ادلب المدينه الرائعه الفاتنه اتيتها من اللاذقيه عن طريق جسر الشاغور طريق طوله 120 كم اشبه بطريق جنان السماء لسحره وجماله لم يصادف وسالني احد من الصدقاء او المعارف عن مذهبي او انتمائي فمن قسمكم وشطركم ورماكم في صومعه الفتن..ديهي حر