الدور الأكبر للدين في الحياة العامة في المجتمع الليبرالي
إن المطالبة بجهة تنفيذية أو جهة قضائية إسلامية، لا معنى حقيقيا ولا وقع لهما. كما رأينا أن فرض نوع معين من التشريع مسبقاً يعود على المجتمع ككل بالضرر وبالأخص للدعوة إلى الفضيلة في المجتمع والتي تشمل الدعوة الإسلامية.
لكن ما هو دور الدين إذاً في المجتمع؟
أولاً، في الدولة الليبرالية، أفراد المجتمع لهم حق ممارسة عقائدهم بحرية كاملة، من دون أي تدخل للدولة لمنعها.
ثانياً، من حق أفراد المجتمع تكوين الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الدينية بحرية كاملة، وهذه تشمل المؤسسات الدعوية التي لها مطلق الحرية في العمل الدعوي. وهذا يشمل العمل السياسي وتكوين الأحزاب ذات المرجعيات الدينية.
ثالثاً، لا يمكن فصل الدين (أو أي نظام قيمي آخر) عن السياسة والتشريع (لكن لا يمكن فرض الدين مسبقاً، كما ذكرت سابقاً). فأنا لا انتمي إلى هؤلاء الليبراليين المطالبين بفصل الدين عن السياسة بوضع قانون يمنع هذا. فمطلبهم هذا غير واقعي ومن المستحيل تطبيقه. فانظر مثلاً لتركيا وعلمانيتها التي هي في الواقع ليست علمانية محايدة، لكنها علمانية في الكثير من الأحيان معادية للدين. في تركيا، صعد حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية للسلطة على رغم كل العواقب الموضوعة لفصل الدين عن السياسة.
مطلب فصل الدين عن السياسة من بعض الليبراليين غير واقعي ولا عملي وفيه بعض النفاق لأن كل المواقف السياسية والتشريعية تأتي من محتوى قيمي. لماذا قيم الليبرالي، وليست قيم الشيوعي أو الإسلامي؟ فأنا أطالب الليبراليين بالموضوعية في تناول هذه النقطة، لئلا يتهموا بالنفاق وعدم الليبرالية في هذا الموقف.
لكن هذا لا يعني أنه من الحكمة أو الضمير أن يلعب حزب ما بالمشاعر الدينية لبعض الناس إن لم يصوتوا في مصلحة الحزب الديني. مع أن العمل السياسي الحر حق مكفول في المجتمع الليبرالي، حتى لو ممزوج بالخطاب والشعارات الدينية. لكن إن أرادت كتلة ما أن تدخل في مجال العمل السياسي، فلا أحد فوق النقد. فكما احترم حرية الأحزاب في العمل السياسي الممزوج بالدين، أتمنى احترامهم لحرية الآخرين في العمل السياسي والسعي وراء عدم العبث المحتمل بالدين لأجل أهداف سياسية بحتة.
فإذاً، لو دمجنا كل ما سبق، لرأينا أنه عن طريق العمل الدعوي والسياسي الحر في المجتمع، وعن طريق العملية الديمقراطية المبنية على الحوار والنقاش في العملية الانتخابية والتشريعية، فهناك مسلك عن طريقه تجد مبادئ الشريعة طريقها إلى إدارة شئون البلاد، بطريقة لا فرض فيها للقوانين على الشعب وبه نتجنب صنع شعب ضعيف، منافق أو مهلهل. وهذا في رأيي الطريقة السليمة الوحيدة لإخراج إسلام مبني حقاً على قناعة الأفراد، وهو ما يقوي الإسلام ولا يضعفه.
ولكن. وهذا يؤدي بنا إلى آخر نقطة لتكتمل الصورة. ما وصفته سابقاً هو ما يسمى بالديمقراطية (الوصول للحكم والتشريع عن طريق الاقتراع الحر النزيه بدون فرض مسبق لنوع معين للحكم أو للأحكام). لكن ما تنادي به الليبرالية هو الديمقراطية الليبرالية.
الديمقراطية الليبرالية هي أن يكون الحكم لصالح الغالبية لكن من دون التعدي على حقوق الفرد. وهذا معناه أنه في أمور الفرد الشخصية وعقائده وحريته الفردية، لا يمكن أن تحكمه الغالبية، وهو ما يتوافق تماماً مع كل ما كتبته سابقاً بخصوص بناء مجتمع صحي قائم على القناعة الشخصية وبه تشريع يعكس واقع المجتمع بدقة. وهذا أيضاً ينطبق على تعاملات الأفراد طالما التعامل حر ولا يتعدى على حقوق الآخرين.
وهذا لا يتعارض مع الإسلام وتأكيد القرآن على حرية الاختيار والعقيدة «لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي» (البقرة: 256)، «لكم دينكم ولي دين» (الكافرون: 6)، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29). فلو أعطى الله الفرد حرية الاختيار حتى في الكفر والإيمان، فما يعطينا الحق في أخذها منه؟
هذا هوالتصور الليبرالي للمجتمع الحر والذي يلعب الدين فيه دوراً مهماً وقيماً جداً.
فالوصول إلى تطبيق الإسلام لا يتم إلا عن طريق الشرح، والإقناع والتحاور، ومنافسة الأفكار. والأصلح من تلك الأفكار هو ما ينتصر، بقوة الحجة، لا بقوة القانون المصحوب بعصا العقاب إن لم تنفذ مجموعة تشريعات محددة مسبقاً.
أخيراً، أود أن أمر مر الكرام على نقطتين مهمتين لتعريف الإسلامي بمعنى كلمتين أجد أن الكثير قد اختلطت عليه الأمور فيهما.
أولاً: الليبرالية لا تحارب الدين. الليبرالية لا تتخذ دينا، ولا حتى دين اللادين (الإلحاد). الليبرالية تعطي الإنسان الحق في الاختيار، لكنها هي نفسها ما هي إلا فكر سياسي يؤمن بأن التشريع له مصدر أخلاقي بطبيعة الحال، وقد يكون هذا المصدر دينيا، وهذا لا مشكلة فيه كما أوضحت في سياق المقالة.
ثانية، العلمانية ليست هي الإلحاد. فأنا مثلاً إنسان مسلم ولكن بسبب تخوفي من عبث رجال السياسة في الدين وعبث بعض مدعي التقوى في أمور السياسة والسعي وراء السلطة، هو ما يستدعيني أن أكون علمانياً في أمور إدارة الدولة. فأنا مسلم عقائدياً، علماني سياسياً. فعلمانيتي السياسية مصدرها خوفي على ديني ودولتي من عبث من لا ضمير لهم
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3444 - الجمعة 10 فبراير 2012م الموافق 18 ربيع الاول 1433هـ