العدد 3444 - الجمعة 10 فبراير 2012م الموافق 18 ربيع الاول 1433هـ

التعاطف مع الناس

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

في قاعة التدريب، ولسد فجوة الأداء بما يلبي مهارة النجاح في التنمية البشرية، نستشهد بموقفين سلوكيين مدخلاً للحديث عن «الذكاء العاطفي». الموقف الأول: رجل يجلس في مقعده في الطائرة وإلى جانبه مقعد خالٍ. هو لا يريد لأحد أن يجلس في المقعد المجاور له ويزعجه، فيضع حقيبته على المقعد المجاور ويمسك بصحيفةٍ ويبدأ بقراءتها. تزدحم الطائرة بالركاب الذين يبحثون عن مقعد يجلسون فيه. يسترق النظر إلى الناس من وراء الصحيفة ويبسطها أكثر ليجعل الناس لا يرغبون في الجلوس على المقعد المجاور له!

الموقف الثاني: يحدث خطأ في حجز المقاعد لزوجين في طائرة، فلا يجلسان بجانب بعضهما، وفيما المضيف يبحث عن حلٍّ لهذه المشكلة تتقدم امرأةٌ بجانبها مقعد خالٍ من المسافرين وتعرض على أحد الزوجين أن تبادله المكان ليجلس الزوجان بجانب بعضهما.

من خلال تحليل الموقفين السابقين يمكن رصد شعور الإنسان بالغبطة والارتياح لمساهمته في تلبية حاجات الآخرين. وهو شعور يجسد قدرة الشخص على إنشاء شبكة من العلاقات الناجحة والحميمة مع الآخرين بحيث يجد الإنسان نفسه يسمو في مدارج الكمالات، وهو يشاركهم آلامهم وآمالهم. جاء في الحديث عنه (ص): «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النارِ وتَحرُمُ عليه النارُ؟ كلّ هيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ».

ويحضرني في هذا الموقف حديث هايكو إرنست عن العلاقة بالآخرين وهو يذكر بأن التعاطف Empathy هو أكثر من مجرد المشاركة الوجدانية Sympathy، فعندما نشارك الآخرين وجدانياً نتذكر كيف يكون الحزن أو السعادة فنتقاسم هذه الخبرات بحيث ينشأ بين الناس تشارك مصبوغ بالانفعال أو المشاعر. وعليه يكون التعاطف ليس مجرد المشاركة في المشاعر فقط بل محاولة فهم الكامن خلف هذه المشاعر، يقول الشاعر:

ولابد من شكوى إلى ذي مروءة... يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ.

ويقول باحث التعاطف وليم إكس «الاحتضان التعاطفي ليس أكثر من شكل من قراءة الأفكار الذي نمارسه في حياتنا اليومية من الذات نحو الآخرين». فإذا استطعنا «قراءة» ما الذي يفكّر فيه الآخر ويحسّه ودوافعه نحو موقف معين، عندئذٍ يمكننا أن نتعاطف معه. ودانيال جولمان يعرف التعاطف بـ «قدرتك على تفهم مشاعر الآخرين وإشعارهم بذلك». لذا يستخدم المختصون في المهن الإنسانية كالخدمة الاجتماعية والإرشاد النفسي التعاطف باعتباره وسيلة أساسية لتكوين العلاقة المهنية مع عملائهم بهدف تخليهم من المشاعر السلبية.

وقبل أن تطل علينا كتب ونظريات الذكاء العاطفي قام «أهل العرفان» قديماً بدراسة معمّقة لفهم آلية الحب والعواطف، وقاموا بتدريب أتباعهم على اعتماد هذا الخطاب لصناعة حياة خالية من الكراهية، وبعيدة عن مكر السياسة وثقافة الحروب. ولعل وقفة صغيرة مع الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين ستمكننا من إطلالة فكرية على منهج روحي وتحليل فلسفي عاطفي بديع، يجعلنا نفهم صورة التقوى على نمط جديد من التوازن النفسي.

وكذلك فقد أبدع الشعراء العرب قديماً وحديثاً في خلق حيّز لا يستهان به من توظيف القوافي وترويض النفس على الحب:

أيقظ شعورك بالمحبة إن جفا... لولا الشعور الناس كانوا كالدمى

أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيّراً... وابغض فيغدو الكون سجناً مظلما

وتذكر كتب التاريخ أيضاً أنه لما احتضر الإمام عليٌّ (ع) جمع بنيه وأوصاهم بقوله: «يا بني عاشروا الناس عشرةً إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فقدتم بكوا عليكم». وكان المسيح (ع) يحث أتباعه على تدريب صعب على النفس في وصية جديرة بالتأمل: «أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم». لهذا ذكره الحق جل وعلا في القرآن محفوفاً بالسلام عليه يوم يولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً. وقدم رسول البشرية محمد بن عبدالله (ص) أعظم درسٍ في الحب عندما فتح مكة وأطلق كلمته الخالدة في رفض الكراهية «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وقد احتلت ظاهرة التعاطف مكانةً عظيمةً في التجربة الإسلامية، ليس مع الإنسان فقط بل نجد أن الرسول يأمر الصحابة الكرام أن يقلّموا أظافرهم قبل حلب الأبقار، حتى لا يخدشوا ضروع المواشي! مفارقة في الود والرفق في التعامل يقول الرسول أرواحنا فداه «ومرهم أن يقلّموا أظافرهم فلا يخدشوا ضروع المواشي إذا حلبوا».

نعم... هكذا يكون الإسلام باعتباره رسالةً حضاريةً تتجاوز التحيزات العصبية والمناطقية والقبلية، ويتجاوز السكرة المذهبية التي تجتاح المنطقة حالياً، بل تذهب النظرية الإسلامية إلى تعزيز التعاطف مع الإنسان مطلقاً. روى عن الرسول (ص): «اصطنع الخير إلى من هو أهله وإلى من هو غير أهله، فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله». وقال الإمام جعفر الصادق: «رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر». وقد اتفق الفقهاء المسلمون جميعاً على جواز الوقف لخدمة غير المسلمين كأن يوقف أحد المسلمين وقفاً ليصرف على فقراء اليهود والنصارى أو على تعليم أولادهم أو على علاج مرضاهم.

إنها دعوة تعاطف إنساني عمرها ألف وأربع مئة سنة، وهي سابقة على منظمة «أطباء بلا حدود» (Medicines Sans frontieres). وهي أيضاً دعوة إلى الآباء والمعلمين والمثقفين والحقوقيين، بأن يقوموا بإشاعة مبدأ «التعاطف» بين الناس على مختلف مشاربهم وصنوفهم في المنازل والمحاضرات وورش العمل والمصانع والمدارس... لكي يتحقق نداء الرسول (ص): «كونوا شامةً بين الأمم»

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3444 - الجمعة 10 فبراير 2012م الموافق 18 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً