الزمن لا يشيخ؛ وخصوصاً للذين هم شاهدون عليه. هم يمثلونه في أكثر من قلب وحسٍّ إضافي في اللحظات الفارقة والحاسمة. هم ثرمومتر الزمن. البعض يريد للزمن أن يشيخ ويهرم ضمن شروطه واصطفافه أو حتى مزاجه. ذلك لن يحدث؛ لأن الزمن ليس أجيراً عند أحد بالمياومة أو براتب مقتطع يحدده صاحب مزاج أو وهم.
عبدالكريم العليوات واحد من شهود مرحلة فاصلة امتدت منذ منتصف القرن العشرين وشهد أحداثاً وتحولات.
وحين يتذكر هنا لا ليذهب في السرد، بقدر ما يذهب في محصلات ذلك السرد. يواصل عبدالكريم العليوات حديث الذكريات.
قبل أن ندخل إلى عالم الكتاب والمكتبات يحضرني بيت من الشعر لطالما تغنينا به صغاراً ونسترجعه الآن وقد أصبحنا كباراً لا لرغبة منا في اجترار ذاكرة هي مازالت حاضرة حتى اليوم، بل لقيمة أدبية ثقافية أردنا غرسها من جديد علّ هذه الأجيال أو بعضها يلتفت إلى قيمة الكتاب ودوره في صقل الثقافة والمعرفة. يقول الشاعر:
أوفى صديق إن خلوت كتابي ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشياً سراً إذا استودعته وأفوز منه بحكمة وصواب
ويقول كاتب آخر: «الكتاب هو عماد الحضارة الإنسانية والذين ينصرفون عن القراءة العميقة ينصرفون عن حضاراتهم». وقال آخر «القراءة ثقافة»، نعم القراءة ثقافة بكل تجلياتها، ومعلوم أن الثقافة مهما كانت أبعادها وصورها، لا يمكن اكتسابها بين عشية وضحاها، إنها حب الاستطلاع وفضول المعرفة والتثقيف، هذا الفضول هو الذي يجعل صاحبه ينسلخ من أعذار ضيق الوقت والملل، هو الذي يجعل شهية صاحبه مفتوحة دائماً للقراءة، من دون كلل ولا ملل.
وهكذا عشقت الكتاب والقراءة وشجعت عليها ما استطعت ولا أغالي حين أقول إنني أنتمي لجيل مولع بالقراءة باحث في أمهات الكتب ينهل من ثقافات العلوم والمعارف وفي مختلف المجالات سياسية كانت أم اجتماعية، فنية هي أم أدبية. فالكتب حدائق للمعرفة تغرس فيها كل الفنون الثقافية والعلوم والآداب وإيماناً مني بقدرتها على إشباع نهم القارئ.
عمدت إلى تطوير الكتاب فحولته إلى مكتبة، مكتبة رغم صغرها شكلت منبعاً ثقافياً ومعيناً معرفياً للكثير من القراء في تلك الفترة الزمنية التي أسست فيها. ففي نهاية الخمسينيات ومروراً بالستينيات والسبعينيات اجتاحت الوطن العربي بأكمله حركة ثقافية سياسية وأدبية نهضوية أمسكت بزمام التفوق والارتقاء وبلغت ذروتها في شتى المجالات حتى شكلت هذه الثقافات قوة دافعة لتطوير وإنشاء المكتبات وتفعيلها وعكست مدى الوعي الثقافي للإنسان العربي عموماً وأفصحت عن رغبة ملحة في استعادة نهضتها الأدبية العلمية الشاملة التي انطوت بتعاقب الاستعمار وقضائه على أمهات الكتب وأثمنها.
وهكذا أصبحت القراءة والكتاب قوتاً يومياً للكثير من الباحثين عن العلوم والمعارف في شتى المجالات العلمية والأدبية. حتى أصبح المثقف في تلك الفترة قدوة ورمزاً للنجاح، هذا الأمر شجع على إعادة الاستثمار في الثقافة كمشروع ناجح ومواكبة مع تلك التطورات. نشطت سوق الكتاب والمكتبات، واتسعت وبلغت ذروتها وكان لزاماً علينا تغذية هذا النهم المولع بالقراءة والبحث لأن الإنسان البحريني لم يكن أقل شغفاً بالقراءة عن غيره إن لم يكن أكثر تولعاً بها، وهذا ما سوف أتناوله بالتفصيل في سياق حديثي عن رحلتي المتعبة الممتعة مع الكتاب والمكتبة ومسيرتي الشائكة بين القارئ والرقيب.
ولكن قبل الخوض في التفاصيل وأمانة للحركة التعليمية والمعلم يجب ألا أغفل دور المدرسة في دفع الطلاب إلى الاستزادة من الاطلاع والبحث والقراءة، بالإضافة لمسابقة أحسن وأقيم كتاب من حيث المحتوى والتأليف ما أذكى روح المنافسة بين التلاميذ بل حتى على مستوى الصفوف والمدرسين, برزت محاولات طلابية إبداعية جادة في التأليف، وبلغت المكتبة المدرسية درجة تنافس بها بقية المكتبات بتوفير كل جديد ينشر من الكتب وكذلك المكتبات العامة وكان الناس عموماً والطلاب خصوصاً يرتوون من هذه الأوعية الثقافية ويترددون عليها بدافع الفضول وحب الاطلاع. هذه لمحة مختصرة عن تلك الفترة الثقافية العلمية التي أسست فيها مكتبة العليوات.
لنقف معاً على أول الطريق فقد كان أخي وصديقي المرحوم فيصل العليوات لا يختلف عني شغفاً بالقراءة والاطلاع، بالإضافة لكونه مدرساً يرعى أجيالاً يجب أن ينهض بها ويغذيها علماً وأدباً وثقافة ولذلك عمد إلى إنشاء مكتبة تجارية خاصة به في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
قمت مع أخي المرحوم فيصل بتأسيس مكتبة تجارية تحت مسمى مكتبة الأندلس تحولت فيما بعد «الشركة العربية للوكالات والتوزيع». ومازالت هذه المكتبة قائمة حتى يومنا هذا إذ تزاول نشاطها بتوزيع وبيع الكتب والمجلات.
في العام 1956، كانت تحت مسمى «مكتبة الأندلس» وشكلت هذه المكتبة مورداً علمياً ثقافياً للأجيال في دكان بسيط متواضع. هذا الدكان له مدخلان، أحدهما يطل على شارع الشيخ عبدالله والآخر يطل على شارع باب البحرين بالمنامة، كما قامت في هذا المكان الذي على هيئة حرف L قهوة (مقهى عبدالرحمن) وكان يرتاده المثقفون والمتعلمون والوطنيون من الشباب. في فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات ولكن هذا المقهى قد توقف عن نشاطه منذ نحو عشرين عاماً.
بعد أحداث 1956 واعتقال قيادات هيئة الاتحاد الوطني اعتقل أخي فيصل فشكل اعتقاله صدمة لي كما هي لجميع أفراد العائلة. وكالعادة الاعتقالات السياسية يعقبها تسريح من العمل فخسر أخي عمله كمدرس في دائرة المعارف البحرينية، ومكث في السجن مدة سنتين كما كان كل من عبدالحميد ومحسن يعملان أيضاً في التدريس.
أما عن السبب الذي من أجله اعتقل فيصل فقد كان على أثر نقله جهاز سحب طباعة ورق (استانسل) من مكتبته إلى نادي العروبة لاحتياج النادي إليه، ودائماً وفي جميع الحركات الوطنية هناك من يتكسبون على حساب قطع أرزاق غيرهم، وهذا ما حدث لأخي فيصل إذ كان أحد المخبرين متواجداً هناك فوجدها لقمة هنية معدة إليه فلماذا لا يلتهمها وليكن فيصل العليوات هو كبش الفداء.
فما كان منه إلا أن قام بالإبلاغ عن أخي فيصل وتلفيق جملة من الأكاذيب يستطيع من خلالها أن يؤمن لنفسه هذه اللقمة الحرام، فقال إنه أي فيصل وباختصار شديد يطبع منشورات ضد الإنجليز، وهذه المعلومة تكفي بالنسبة للسلطات آنذاك أن تلقي عليه القبض وتزج به في السجن ومن ثم تحكم عليه بالنفي إلى الهند.
كان الأمر بالنسبة لي صعباً للغاية، فبالدرجة الأولى إبعاد الأخ والصديق عني، وثانياً إقالته من عمله الذي هو مورد رزقه بالإضافة إلى المكتبة التي أسسها لتكون مورداً دائماً لرزق إضافي.
ورغم زحمة الأفكار واضطراب المشاعر والعواطف حيث كنت أعيش وضعاً لا أحسد عليه وخاصة بعد اعتقال والدي إلا أنني لم أقف مكتوف الأيدي ولم أترك المجال لإبعاد أخي فيصل إلى الهند، بل بذلت الكثير من الجهود المضنية والوقت حتى تمكنت من إقناع السلطات أن بلاد الهند مزارها بعيد على أمنا فكيف يتسنى لها أن تزور ولدها عندما وكيفما تريد، وبحمد الله وشكره أفلحت جهودي وأثمرت قراراً بإبعاده عن البلاد إلى المملكة العربية السعودية، وقد كان هذا القرار مريحاً لنا جميعاً فالزيارة ممكنة متى شئنا وخاصة أمي. ولحسن حظ أخي فيصل أن جماعة من البحرين من منطقة الدراز يعملون هناك فاحتضنوه ويسروا له البقاء.
كما قلت سابقاً إن علاقتي بفيصل لم تقتصر على إخوتنا بل كنا صديقين وبقينا كذلك حتى توفاه الله. ولذلك وفي زيارتي له قبل أن يغادر أرض الوطن اتفقنا على أن أمسك إدارة المكتبة (مكتبة الأندلس) بعد إدخالي كشريك على أن يغير اسمها إلى مكتبة العليوات وهكذا احتفظت بهذا الاسم حتى اليوم. وبحكم علاقتي المتينة بفيصل وخلال فترة وجوده في السجن، قمت بتدبير مجال لعمله بعد انتهاء مدة سجنه، فقمت حينها بإنشاء مكتبة تجارية ثقافية حيث التحق بها مباشرة بعد خروجه من السجن وكان ذلك في سنة 1956 وأصبحنا نعمل معاً.
وفي الحقيقة لم يكن الطريق أمامنا (وأقصد أنا وأخي فيصل ) معبداً بالورود إنما أشواك سامة تنغرس في أعماقنا كل حين وبطرق شتى، فنقوم تارة بقلعها من جذورها وأخرى بقصها ظاهرياً وتبقى تنزف في الأعماق والزمن كفيل بطيها.
لقد واجهنا الكثير من التحديات والوشايات كانت جميعها تدفعنا لمواصلة الطريق والاستمرار في استكمال ما بدأناه. وقد كان وضع القارئ والكتاب معاً في تلك الفترة مشجعاً ودافعاً للحماس والاستمرار.
فالعالم العربي في مجمله كان يعيش عصر النهضة والتحرر من قيود الذل والعار ومن سطوة الاستعمار الأجنبي الغاشم. وكان التهافت يزداد يوماً بعد يوم على متابعة الأخبار والاستزادة من الاطلاع على مجريات الأحداث كبيرها وصغيرها ما أصاب المواطن العربي بنهم القراءة والمعرفة.
وكان جيل الشباب البحريني كغيره من الشباب في الوطن العربي منصهراً ومندفعاً في الحركات الوطنية، والإبداعية والثقافية. وعلى الرغم من كل التحديات الذي واجهتنا إلا أن نجاحنا دفعنا بحماس أكثر نحو التطوير والانتشار وهذا يتطلب منا توسيع دائرة تعاملاتنا وتنويعها.
وشيئاً فشيئاً أخذت سوق الكتاب تتسع مند أواسط الخمسينيات مروراً بعقد الستينيات والسبعينيات. ومن أجل مواكبة الطلب على الكتب والمجلات سافرت إلى مصر وتعاملت مع شخص اسمه حسين مسئول عن دار «المعارف» بمصر حيث زودني بمجموعة كبيرة من الكتب المتنوعة. وفي هذه الأثناء بدأت سوق الكتاب تتحرك في البحرين، ومن بين الأشخاص الذين مازلت أتذكرهم المرحوم محمد المعلم صاحب «دار الشروق» وهي إحدى الدور المصرية المهمة التي كانت تزودنا بالكتب.
كانت مكتبتنا في البداية مقتصرة على الدور اللبنانية والمصرية ثم تطورت إلى الدور السورية والتونسية والليبية، وأصبحت المكتبة تجلب الصحف والمجلات العربية وحتى الأجنبية مثل صحيفة «الهيرلد تربيون» والمجلة الألمانية «دير شبيغل» والأميركية مجلة «التايم» وغيرها من المجلات والصحف، ولذلك بدأت فكرة تحويل مسمى المكتبة الى الشركة العربية للوكالات بعد قمنا معاً وفي فترة غياب أخي فيصل في السعودية بتأسيس «الشركة العربية للوكالات والتوزيع». وذلك ليتسنى لنا طباعة وتوزيع الكتب وكان مقرها في شارع المتنبي بسوق المنامة القديم إلا أن شريكاً ثالثاً قد انضم إلينا فيما بعد وهو رسول الجشي صاحب صيدلية الجشي المعروف ورئيس التجمع القومي ورئيس نادي العروبة وكانت هذه الشراكة مرتبة بالتعاون معه في على بتوزيع المنتجات التي يستوردها، ولكن هذه الشراكة لم تدم طويلاً فسرعان ما انسحب من الشركة وبقيت باسمي وأخي فيصل، ونظراً لوجود أخي في السعودية، فقد أدخلت معي في الشركة ابني سمير بنسبة في الشركة، وذلك ليساعدني في إدارة الشركة العربية وكذلك المكتبة التي تحمل اسم العائلة وبما أن الهدف من تأسيس الشركة كان تولي مهمة طباعة الكتب الخاصة بالأفراد والمؤسسات والجهات الحكومية، ولذلك قمنا بطباعة ونشر مجموعة من الإصدارات البحرينية أذكر منها «لمحات من الخليج العربي» لمحمد جابر الأنصاري، «البحرين وأهميتها بين الإمارات العربية» لإبراهيم عبدالكريم، «محمد البشارة» ديوان شعر للشاعر قاسم حداد، «تأملات وهمسات» فؤاد عبيد، «بدرية في طريق الحياة» قصة لفؤاد عبيد، «تطور التعليم في البحرين» باللغة الانجليزية للمرحوم عبدالملك الحمر، «البحرين عبر التاريخ» للشيخ عبدالله بن خالد الخليفة، وعبدالملك الحمر، «نابغة البحرين عبدالله الزائد» للمرحوم مبارك الخاطر، ديوان ا»لعرائس» للأديب الشاعر المرحوم إبراهيم العريض. كما طبعنا له ديوان «شموع وأرض الشهداء وقبلتان». كما طبعنا مجموعة قصص بعنوان «موت صاحب العربة» للقاص محمد عبدالملك.
وقد تنقلنا في مشوارنا المتعب الممتع مع المكتبة ثم الشركة فيما بعد من حيت المقر والموقع. إلى مقرات ثلاثة كانت على التوالي مقرها الأول في موقع المقهى الذي يطل على الشارعين (شارع باب البحرين وشارع الشيخ عبد الله) ثم انتقلنا إلى شارع المتنبي بالقرب من إدارة البريد بالمنامة، وأخيراً في بناية الشيخ راشد المطلة على شارع السلمانية الطبي ومازلنا في هذا المقر حتى كتابة هذه السطور.
كنا نتعامل مع العديد من دور النشر العربية وكذلك العديد من الصحف والمجلات العربية منها من العراق، دار المتنبي، فمن الكويت دار الرسالة والصحافة وهي تتبع حركة القوميين العرب، ومن بيروت دار الثقافة، ودار المعارف، ومؤسسة المعارف، ودار العلم للملايين، ومن مصر، دار المعارف، ومن أبوظبي بعض المطبوعات المحلية، ومن الدوحة مع دار العروبة، أما عن نوعية الكتب التي نعرضها للبيع فقد كانت متنوعة بين كتب تاريخية وثقافية وتراثية وقومية ووطنية وأدبية ودينية، أذكر منها روايات جرجي زيدان، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعي، وشعراء المهجر، والجواهري، والنجفي، وشوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمود سامي البارودي، وإحسان عبدالقدوس، ومحمود عبدالحليم عبدالله، وخطب عبدالناصر.
ومن الصحف والمجلات «الأهرام»، «أخبار اليوم»، «الجمهورية»، «الآداب»، «الرسالة»، «الأديب»، «الكاتب»، «آخر ساعة»، «الكواكب»، «روز اليوسف»، «صباح الخير»، «المصور»، ودواوين شعر وشيئاً فشيئاً ازداد نشاط الشركة في مجال النشر والتوزيع كما هو الحال في المجالات الأخرى فقد بدأ بعض الناشرين من دولة الكويت يتعاملون معنا لتوزيع بعض الكتب في سوق البحرين.
وللعلم أقول إن مكتبتنا لم تكن مجرد مؤسسة لاستيراد الكتب والمجلات والصحف وتوزيعها وتسويقها في البحرين, بل كانت مؤسسة للنشر أيضاً. وفي مجال النشر ساهمت المكتبة (الشركة العربية للوكالات والتوزيع) بنشر ما يقرب من 14 إصداراً في مختلف مجالات الثقافة والأدب والفكر والتاريخ والتربية. في مجال الأدب أصدرنا مجموعة ومن الكتب التي أتذكرها نشطت السوق بعد ذلك، وأصبحنا نستورد الكتب من القاهرة وبيروت بمعدل مرتين في الأسبوع عن طريق الشحن الجوي بعد أن كثر الإقبال عليها، وأتذكر أننا كنا نستورد شحنة من 1000 نسخة من بعض الكتب فكانت تباع في الحال، وأشهرها ديوان شعر «حبيبتي» للأديب والشاعر المرحوم نزار قباني، فقد بيعت منه نسخ كثيرة.
وحديثي عن المكتبة والكتاب يطول فهي عالم بحد ذاته هي أيامي وسنوات عمري بكل ما فيها من هم وتعب وشقاء وبكل ما حققته من تقدم ونجاحات وتحديات إذ لم يقتصر نشاطها على البيع والشراء السفر فقط بل تعداه إلى أنشطة أخرى مصاحبة للمكتبة من أهمها شغفي الشديد بإقامة المعارض
وكما قلت سابقاً خلال الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي نشطت سوق الكتاب وتوسعت ونشطت معها أسفاري وتنقلاتي من بلد لآخر سعياً مني وراء كل جديد ومتطور. وأثناء جولاتي زرت ودعيت للكثير من معارض الكتاب التي كانت تنظم في كلٍّ من القاهرة وبيروت وألمانيا أيضاً حيث شاركت في معرض القاهرة الدولي وفي معرض بيروت الدولي وغيرها من المعارض العربية. كما شاركت في معارض عالمية مثل معرض فرانكفورت الدولي, بالإضافة إلى معارض الكتاب المحلية.
فتكونت لدي من خلالها فكرة متكاملة عن هذه المعارض وعظيم جدواها في عملية البيع والشراء بل وحتى في التعامل مع كبريات الشركات العربية والعالمية ما دفعني إلى تنظيم تلك المعارض التي لم تعهدها البحرين من قبل، ذلك بغرض نقل هذه التجربة الناجحة إلى البحرين تنظيم أول معرض للكتاب وهكذا أصبحت لدي خبرات تراكمية اكتسبتها فاختمرت حتى برزت إرادة وتصميم على البدء بإقامة مثل تلك المعارض في البحرين فتوكلت على الله وشرعت في تنظيم معرضي الأول للكتاب. كان ذلك في الستينيات أو بعبارة أدق وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي. وقد كان أول معرض للشركة تحت عنوان «المعرض الأول للكتاب العربي» شارك فيه عدد كبير من دور النشر من عدد من الدول العربية.
وقد أقمته بمناسبة استقلال البحرين وعيد العلم في آن واحد وذلك بقاعة نادي العروبة في الساعة الخامسة من ظهر يوم الثلثاء الموافق 30 مارس/ آذار 1971، وبرعاية كريمة من القائم بأعمال رئيس التربية والتعليم حينها المرحوم الشيخ عبدالعزيز آل خليفة.
وقد اخترت هذا المكان أي نادي العروبة لأنه في تلك الفترة كان ملتقى المثقفين والمتعلمين والسياسيين أيضاً هذا بالدرجة الأولى ولذلك استهدفت من خلال اختياري لهذا المكان الطبقة المثقفة والقارئة حيث كان من النوادي والمنتديات الثقافية المشهورة، ولكن ما حز في نفوسنا أن هذه التجربة الرائدة والفريدة من نوعها في ذلك الوقت لم تحظَ برعاية رسمية من قبل المسئولين، ولم تقدم لنا أي تسهيلات أخرى. حتى أنني طلبت (من راعي المعرض الشيخ عبدالعزيز آل خليفة الذي كان حينها كما أسلفت قائماً بأعمال رئيس التربية والتعليم قبل أن تتحول إلى وزارة تحت قيادته بعد الاستقلال)، وفعلاً تقدم مشكوراً بافتتاح المعرض، ولكنه اعتذر عن دعوة طلبة المدارس، معللاً اعتذاره بأن هذه الأمور تمس الجانب الشخصي للطلاب وأولياء أمورهم، وهذه أمور لا تتدخل الوزارة فيها.
إضافة إلى ذلك أن غالبية دور النشر البحرينية لم تشارك في هذه البداية، ولكن هذا الموقف السلبي وغيره من المواقف زادتني إصراراً وعزماً على إقامة العديد من المعارض وبكل ثبات فبعد مرور سنتين على معرضي الأول شرعت في تنظيم معرضي الثاني للكتاب وتحديداً في العام 1973 تحت عنوان «أسبوع الكتاب العربي الثاني» ولكنني في هذه المرة أقمته في قاعة القسم التجاري بمدرسة المنامة الثانوية للبنين رغبة مني في توسيع دائرة الاستفادة من الكتب المعروضة لتشمل طلبة المدارس. وللملاحظة أنني دائماً استهدفت الجمهور القارئ في البحرين. وحينها كان بالطبع يتمثل في الطبقة المثقفة وطلبة المدارس، اشترك في هذا المعرض أكثر من عشرين دار عربية للنشر ثم تواصلت المعارض التي تنظمها مكتبتنا كل سنة، أو سنتين. هذا فضلاً عن مشاركتنا في المعارض المحلية والإقليمية والدولية. وفي الحقيقة هذه المعارض والأنشطة كانت تخفي وراءها هدفاً غير معلن هو العمل على تنشيط الوضع الثقافي والسياسي في البحرين عن طريق القراءة
العدد 3443 - الخميس 09 فبراير 2012م الموافق 17 ربيع الاول 1433هـ