بعض الدول والأنظمة لا تعمد إلى اغتيال معارضيها بشكل مباشر عبر التصفية الجسدية لاعتبارات ربما تكون خارج سيطرتها أحياناً بحكم ضغوط تترى من هنا وهناك، ولا اعتبار أخلاقياً في الأمر. تتأنى في ذلك، وترى في خيار تصفيتهم (المعارضين) معنوياً بمثابة تأجيل لذلك الاغتيال من جهة، وتأبيد للاغتيال بشكل يومي ولحظي من جهة أخرى، وفي ذلك عبرة لمن لا يعتبر، ضمن طابور طويل من المعارضين الذين يشكلون إساءة للجغرافيا والتاريخ والمستقبل والبشر الذين يتم التحكم بهم ضمن ذلك التعاطي والنظر.
مثل تلك التصفية لا يمكن أن تتم بأدوات ومفاعيل أخلاقية هي ما دون ذلك بمراحل؛ بل هي في اللبّ من انتخاب طرق وأساليب لا تليق بممارسات الدول كدول؛ بل هي في الذاكرة من صميم تجار التهريب والسلاح؛ وحتى تجار الرقيق الأبيض؛ حيث سلاح التشويه مفتوح على اللانهايات، ومديح الذهاب في ذلك الخيار اللاأخلاقي يرصد له ما يرصد كي يؤدي مهمته على أكمل وجه.
تلك ممارسة تكاد تتحول إلى تأسيس وثقافة راسخة مكرسة في خريطة التعاطي مع كل صوت تراه أي دولة أو نظام نشازاً ومصدر قلق وتوتر وتشويش على ممارساتها التي من المفترض أن تكون خارج المساءلة أو حتى التفكير في الاحتجاج، مجرد الاحتجاج.
وفي الاغتيال المعنوي لا تتكشف رحمة بعض الدول/الأنظمة بعدم لجوئها إلى الاغتيال والتصفية المباشرة بقدر تكشّفه عن مساحة لهو تريد أن تمارسها وتبدد ضجرها من جهة، وتفريغ عقدها وفشلها في الاحتواء ووضع الحلول لمشكلات راكمتها وأهملت التعاطي معها طوال عقود من الهيمنة والشمولية التي امتدت في كل مفصل من مفاصل الحياة.
الاغتيال المعنوي لا يتبدى في حشد مواقف ومشاهد يتم تصنيعها وخلقها خلقاً من عدم فحسب؛ بل يتجاوز ذلك إلى نسف وإعدام ونفي الامتداد لموضوع الاغتيال؛ بحيث يصبح بقدرة قادر طارئاً، دخيلاً، لاجئاً اكتسب المواطنة أو اخترق الحدود في غفلة العسس. شجرة السلالة عبث ولا شيء يدل عليها. الامتداد والتجذر التاريخي في الأرض محض تسلية وكلام في الوقت الضائع.
ذلك أهون الشرّين إذا ما قيس بالشرف وسجل طويل ليس عصياً على من يملك القوة وأجهزة صناعة الهوية والحال أن يقفز إلى ما بعد صناعة الوهم. والتكنولوجيا - ضمن مرتزقتها - لا ترحم في إمكانية اختراق أخلاقياتها وتزوير وجهتها، وفي ذلك عسس أيضاً يتولون تلك المهمة في ليل المختبرات والغرف المغلقة!
وإن بدا الأمر تأنياً وتأجيلاً وتأبيداً للاغتيال إلا أنه يكشف في الوقت نفسه عن مأزق بيّن. مأزق أن الخيارات ليست خارج نطاق الأخلاق والقيم التي لا يعترف بها ممارسها؛ ولكن يكشف أيضاً عن ضعف ووهن بيّن؛ على رغم الفسحة الموهومة من طرف وحيد. ضعف ووهن لا يقابل الحجّة بالحجّة والأهم من ذلك يرى في أي صوت خارج نطاق طبقات صوته التي اعتاد عليها الزمان والمكان (توهّماً) خنقاً لصوته، وفي موقف شاذ يتم اللجوء إلى مثل ذلك الخيار المرَضي الفاقد لأدنى قيمة حس وقيمة معنى وخلق.
لاشك أن تغتال الإنسان في قيمته ومعناه بسبب مواقفه أمر يكشف عن مدى عجزك في القدرة والتفهم والاستيعاب للاختلاف. تلك هي المسألة. ثقافة غائبة مغيّبة، حوار أحد أطرافها إما محو أو مسح المقابل له، وإما تأجيل ذلك لتأبيد الفعل.
لكن بعضهم لا وقت لديه في تعجّل وقلق على مزاحمته فيعمد إلى التصفية المباشرة وفي صور قد لا تجد لها مثيلاً حتى في عالم الغاب.
«أرسل ابن المقفع لأبي جعفر المنصور كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة أسماه (رسالة الصحابة) نصح فيه المنصور بحسن اختيار معاونيه وحسن سياسة الرعية، فعوقب لأنه تجرأ على النصح والإرشاد بتقطيع أطرافه إرباً إربا، ويلقيه في ذلك التنّور حتى حرقه كله وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطّع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في وصف قتله». ذلك ما ذكره ابن كثير في الجزء العاشر من سفْره «البداية والنهاية» ص 99.
تصفية كتلك تريح صاحبها وتدخله المستقبل لا التاريخ، وتصفية كتلك التي بدأت بها المقال يتوهّم مهندسها أنها تدخله التاريخ وتدخل ضحيتها مجال العدم. ذلك اغتيال يرتد على صاحبه.
ظل أبوجعفر المنصور مؤسس وباني بغداد طاغيةً في عرف الزمن، وظل ابن المقفع واحداً من مؤسسي الفكر التنويري في تاريخ الحضارة العربية التي ابتليت برعاة طغاة.
دول كتلك ليست مستعدة وتظن أنها ليست غبية كي تصنع وتُراكم شهداء. الشهداء يحتلون المشهد طوال التاريخ بمستقبل لا ينفصل عنهم ولا عن فعلهم. الحكام خارج حدوده إلا في حيز الذم الذي سعوا إليه ليكون لصيق خصومهم
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3442 - الأربعاء 08 فبراير 2012م الموافق 16 ربيع الاول 1433هـ
عزيزي بو محمد
شقيقي :
مقال أكثر من رائع... بس من يفهم ومن يتعض
لك أمنيات التوفيق