العدد 3439 - الأحد 05 فبراير 2012م الموافق 13 ربيع الاول 1433هـ

مشكلتنا في القامات

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تُنتِج السياسة سياسيين، لكنهم ما إن يمارسوها حتى يُصبحوا أكبر من السياسة ذاتها، وهي التي أنجبتهم وأظهرتهم. وتنتِج الدول موظفين عامِّين ليديروا شئونها ويخدموا الرَّعيَّة، فما هي إلاَّ بُرهَة من الزمن (أو حتى أدنى)، حتى يُصبحوا أكبر من الدول ذاتها. وينتِج الدِّين علماء شريعة، يُسيِّرون فتاواها ويعلِّمون أحكامها لتابعيها، فيتحوَّل هؤلاء إلى ما هو أكبر من الدِّين نفسه. هذه هي المشكلة البنيوية والحقيقية التي نعاني منها ولا شيء غيرها.

شارل ديغول، قاد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي إبَّان الحرب الكونية الثانية، وبنى الجمهورية الخامسة، لكنه لم يصمِد لا هو ولا تاريخه ولا إنجازاته، أمام «ثورة الطلبة» وأمام رغبة الفرنسيين الذين غايروه في قناعاته في استفتاء 27 أبريل/ نيسان 1969 بشأن دور المحافظات وإصلاح مجلس الشيوخ، حتى استقال كرئيس للجمهورية الفرنسية قبل أن يكمل دورته الرئاسية، تاركًا الحكم لرئيس وزرائه حتى وفاته في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1970م، دون أن يكون في ذلك غضاضة أو شيئًا غير مألوف لدى الفرنسيين، الذين كانوا قد تشرّبوا تلك الثقافة كما يجب.

السير ونستون ليونارد سبنسر تشرشل رجل دولة وعسكري ومؤلف وخطيب جماهيري مرموق، وهو الذي قاد بريطانيا ضد هجمات النازيين الجوية المرعِبة على العاصمة لندن، وقاد حرب الحلفاء ضد ألمانيا ودول المحور حتى النصر المؤزر. كما أنه من أهم القادة الإنجليز في تاريخ هذا البلد، وفي إدارة مستعمراته، لكن البريطانيين أسقطوه في انتخابات العام 1945، ولم تشفع له لا شجاعته ولا جسارته ولا تضحياته ولا خطاباته النارية والمبكِيَة أمام رغبة شعبه في التغيير، والتطلع إلى ما هو أفضل منه، مثلما كان يرى ذلك الناخب البريطاني.

جورج بوش الأب، كان قد حطَّم للأميركيين امبراطورية الشر (الاتحاد السوفياتي) كما سماها رونالد ريغان، والتي عيَّشتهم في خوف ورعب طيلة أربعين عامًا، وجعلتهم ينفقون أكثر من 16 تريليون دولار، في سباق أعمى للتسلح وغزو للفضاء على حساب التنمية الداخلية خلال الحرب الباردة، لكن الأميركيين أنفسهم لم يختاروا بوش لدورة رئاسية ثانية، بل اختاروا منافسه في الانتخابات بيل كلينتون، الذي يصغره بـ 22 عامًا، دون أن يكون ذلك أمرًا نشازًا.

مشكلتنا في العالَم العربي أننا لسنا كذلك. لأننا نادرًا ما نثِق فيمن هم أفضل منا، كما كان يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو. خطورة بناء القامات هي في تحوِّلها إلى بديل عن الدولة وعن الدِّين. وحين تصبح الفرْدانية هي الأصل، فإن قيمة الأشياء تتبدل، فيصبح الأشخاص هم الأوْلَى بأن يُضحَّى دونهم، بما فيها الدول ذاتها، التي تتحوَّل تلقائيًا إلى متاريس، يحتمي بها الشخوص، يُدافعون عن أنفسهم ولحمهم ببنائها وقداستها وإمكانياتها وكذلك الدَّين.

معمَّر القذافي، بدأ حياته فقيرًا مُشرَّدًا جائعًا في الصحراء، يمشي عشرة كليومترات في اليوم حتى يصل إلى مدرسته كما كان يذكر عبدالرحمن شلقم، ثم انتهى به المقام قائدًا للثورة، وملك ملوك إفريقيا، وعميد الحكَّام العرب، لم يشأ أن يترك حكم ليبيا حتى ولو قتلوه، ثم سَحَلوه في تمثيل بشِع لجسَده. هذا التضخم في الذات، جعل من حجم الرجل، أكبر من 1.759.541 كم هي مساحة ليبيا، وأكبر من ستة ملايين ونصف المليون هم تعداد نفوسها.

وهو ذات الأمر الذي يتكرَّر في سورية اليوم. فمن طالب في طبّ العيون أمضى عاميْن على مقاعد الدراسة، إلى مطبخ التأهيل والحكم بسرعة البرق بعد رحيل أخيه الأكبر، ليتولَّى الرئاسة بعد أبيه في بلدٍ جمهوري، لكنه وراثي! فباسم العروبة ودعم المقاومة يدوم حكم الفرد المطلق، وتذهب الشام إلى الانقسام الأهلي والطائفي دون زحزحة لِرجلَي الرئيس. إن لبَّ الحقيقة، ليس في موضوع العروبة ولا هي في حماية البلد من الحرب الأهلية، وإنما هي في بقاء الفرد على حساب الجماعة، والتضحية بالكل لصالح الجزء، والأمة بأكملها في سبيل الحزب.

هذه النمطيَّة في التفكير، عادة ما تولِّد سلوكًا متشددًا لدى الناس مثلما حصل لدى الليبيين ضد القذافي في حركة السابع عشر من فبراير. فعندما يرى الناس أنفسهم وما لهم وما لديهم مختصرين في شخص فرد واحد، تصبح الرغبة إلى التمثيل والكيْننة أمراً جامحاً وسريعًا. ليس في السياسة فحسب، بل حتى في الاجتماع والدِّين، عندما يصل الأمر مديات لا تحتمل من الضغط والتسلط الكهنوتي، وإعطاء الصكوك الخاصة بالهلاك والنجاة.

عندما استفحل الأمر في أوروبا، وصل الحال بالثورات السياسية، أن تثمِّن الأديرة والكنائس من نابولي في إيطاليا حتى نيكاراغوا في أميركا اللاتينية، وتباع أراضيها بسعر التراب. السبب كان ذلك الاختصار والتسلط، لدرجة أن آرثر شوبنهاور وهو فيلسوف ألماني متشائهم كان يقول: بأن الطبيب يشاهد كل الضعف البشري، والمحامي يشاهد كل الشر البشري، ورجل الدِّين يشاهد كل الغباء البشري. بل إن ردة الفعل تجاوزت كلّ ذلك لتصل حتى إلى المقدس.

الدول والشعوب والأديان لا تحتاج إلى قامات مُؤبَّدة خالِدة، لأن دورة الحياة، حين تتبدَّل يتبدَّل فيها كلّ شيء. فالشعوب ليست بهذا القدر البائس الذي لا تستطيع أن تضع حجرًا على حجر، بل هي الأكثر تمددًا ومنحًا للصدقية والثقة في مَنْ يتولونها، دون الحاجة لأن يتبطّل أحد فيستصغرها أو يتهكم من حالها. لنتذكر جيدًا، أن هرمن هيس كان قرويًا، ولوب دوفيكا كان أباه ممتهنًا لتطريز الأقمشة، ووالد بابلو نيرودا عامل في سكّة حديد. لكنهم غيَّروا من مجرى التاريخ ومن مستقبل بلدانهم. إنها الحقيقة، وهي الشيء الوحيد الذي لا يصدقه الناس عادة

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3439 - الأحد 05 فبراير 2012م الموافق 13 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 10:32 ص

      ان في مقالاتهم لعبره

      العزيزالغالي ابوعبدالله عميق في اطروحاته ومن لايتابع اسلوب كتاباته لايتسنى له ادراك البعد السياسي الذي يريد ان يتوصل اليه الكاتب

    • زائر 3 | 6:07 ص

      تحياتي

      كثرة التعليقات على مقال لاتعني صحة المنطق ورجاحة الفكر,بقدر ماهي لاتبتعد عن سببين,اما الأعجاب الأعمى,او عدم الأتفاق كلية, ونضيف ثالث وهو ضعيف جدا وهو مقارعة الحجة بالحجة,كما ان قلة او انعدام التعليقات ليست تصغيرا للكاتب بقدر صحة مايكتبه,اوعدم اعجاب القراء بما كتبه,او لنقل انهم يقرون بصحة مايكتبه,ولكن لغة الصمت تبغى هي الرد الأمثل لعدم القدرة على التعليق!!

      تحياتي

اقرأ ايضاً