تتباين تعريفات الدولة ووظائفها في مختلف الحقب الزمنية، وفي الحقبة ذاتها من بلد إلى آخر، ومن رؤية فلسفية وسياسية إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر. الفيلسوف كارل ماركس عرف الدولة «بأنها أداة قهر طبقي بيد الطبقات المسيطرة ضد الطبقات الأخرى». أما الفيلسوف فريدرك هيغل فاعتبر الدولة «تجلياً أعلى للقيم الإنسانية»، وبالنسبة لعالم الاجتماع ابن خلدون فإن «الدولة أداة الإعمار والحضارة».
في عهدنا الحاضر، هناك تباينات بالتأكيد في تعريف الدولة وتحديد دورها، لكن هناك اتفاقاً فيما بين الأنظمة الديمقراطية على أن الدولة يجب أن تنبثق من المجتمع وتعبر عن إرادته ومصالحه، وأن دورها هو إدارة التناقضات والاختلافات والصراعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها بطريقة سلمية... وبما يعزز من وحدة المجتمع وتقدمه ورخائه واستقراره وعلاقاته الجيدة مع محيطه ومع العالم.
لم يعرف العرب الدولة القومية ولا الدولة الوطنية، منذ انحطاط الدولة العباسية بعد الخليفة المعتصم والدولة الأموية في الأندلس. وقد تناوبت على حكمهم دويلاتٌ إقطاعية سلاليةٌ عربية أو إسلامية، أو خليط منهما، وآخرها الدولة العثمانية، التي انهارت مع نهاية الحرب العالمية الأولى في 1917، لتتقاسمها الدول الاستعمارية الغربية.
الدول الغربية وبسبب حروب التحرير والمقاومة الوطنية وفي ظل مرحلة تصفية الاستعمار إثر الحرب العالمية الثانية، وفي ظل المعسكر الاشتراكي، عمدت إلى إنهاء احتلالاتها للبلدان العربية لتقوم على أنقاضها ما أضحى يعرف حينها بالدول الوطنية عبر مرحلة زمنية طويلة. إذاً فقيام الدولة الوطنية العربية، أتى في ظل تمزيق الوطن العربي وفرض حدود قسرية واحتلال فلسطين وأراضٍ عربيةٍ أخرى من قبل «إسرائيل»، إسبانيا، تركيا وإيران. وقيام الدول العربية على أساس البنى الموجودة كتركة للدولة العثمانية أو الحكم الاستعماري البريطاني أو الفرنسي أو الإسباني أو خليط من هذا وذاك.
نشأة الدول العربية
نشأت الدول العربية في ظل ظروف مختلفة وصيرورة تاريخية مختلفة وتركيبات بشرية متباينة، والأخطر في ظل صراعات عربية عربية، وخضوع الكثير منها لهيمنة الاستعمار الجديد، وزرع الكيان الصهيوني في قلبها على أنقاض فلسطين، وفي ظل غياب مشروع وطني أو قومي لإقامة الدولة الحديثة، التي تنتقل بالمجتمع من التخلف إلى الحداثة، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن تناثر الدول العربية إلى الوحدة العربية. وكان مشروع الجامعة العربية، عملية تلفيقية لإدارة الأزمة وليس حلها. وكان اغتصاب الصهاينة لفلسطين وإقامة «إسرائيل» كقاعدة متقدمة للعدوان ضد العرب أثره السلبي في مختلف المناحي، وكان يمكن أن يكون حافزاً لتوحيدهم.
حال الدول العربية شبيه بحال الكثير من دول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، التي نالت استقلالها من الاستعمار وبنت دولها الوطنية. بالطبع تتباين هذه كما تتباين الدول العربية في فشلها أو نجاحها في بناء الدول الوطنية، لكن الدول العربية مثلت الفشل الواضح لبناء الدولة الوطنية، القادرة على التطور ومجاراة العصر وتقدم الحياة.
وإذا قارنا بين دول عربية رائدة في مرحلة تصفية الاستعمار مثل مصر مع دول أخرى مثل كوريا الجنوبية أو ماليزيا وهي دولة إسلامية تقليدية حينها، حيث كانت مصر متقدمة كثيراً في مختلف النواحي، وتمعنا فيما آلت إليه مصر وما وصلت إليه ماليزيا مثلاً، لرأينا الفارق بين الفشل الذريع في تطوير الدولة الوطنية في مصر والنجاح في تطورها في ماليزيا. وأسوق مثال مصر حيث إنها الدولة ذات البنية والتاريخ الأعمق في بناء الدولة واستقرارها فيما بين الدول العربية، في حين أن ماليزيا دولةٌ إسلاميةٌ متخلفةٌ وتقليديةٌ حتى تحرّرها من الاستعمار البريطاني، لكنها اليوم دولةٌ ديمقراطيةٌ حديثة، وفي مقدمة الدول المتطورة اقتصاداً وإدارة وسياسة.
لا نقول إن بناء الدولة الوطنية العربية محكوم عليه بالفشل بفعل العوامل التي ذكرناها، ولكن يمكننا القول إنه كانت هناك عقبات استثنائية كان يمكن التغلب عليها، فقد تغلبت ماليزيا على واقع انقسامها إلى سلطنات إقطاعية، واستطاعت أن تقيم نظاماً ديمقراطياً يوحد البلاد ويقتصر دور السلاطين الذين يتداولون على رئاسة الدولة سنوياً على الرمزية.
ملكيات وجمهوريات
بالطبع لم تكن الدول العربية متماثلة في نظامها السياسي ولكن يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
أولاً: المجموعة الملكية، حيث النظام في ظل الاستعمار أو الحماية الاستعمارية مشيخي أو إماراتي أو سلطاني أو ملكي كما هو حال غالبية الأنظمة العربية وتشمل بلدان الخليج واليمن والعراق والأردن ومصر وليبيا والمغرب.
ولم يكن شكل ومحتوى النظام الملكي متماثلاً، فأغلب بلدان الخليج كانت محميات بريطانية. النظام الملكي الليبي والمغربي لهما رصيدان في مقاومة الاستعمار، بل ان النظام المغربي هو شراكة بين حكم أسرة العلويين وحركة المقاومة الوطنية. أما الملكيات الأخرى مثل مصر والعراق والمغرب، فقد كانت هناك أسس معقولة لبناء الدولة الملكية الدستورية فيها. وفي بعضها مثل الأردن وليبيا كانت هناك أسس ضعيفة لبناء الدولة الملكية الدستورية. وفي جميع هذه الدول لم تعهد السلطة أو الأسر الحاكمة إلى تطوير نظام الحكم وبناء الدولة. وإضافة إلى عامل الإحباط القومي، فقد آل الأمر إلى انقلابات عسكرية أو محاولات انقلاب عسكرية دشنتها مصر في 1952، وانتهت بالإطاحة بالملكيات الحاكمة في مصر والعراق وليبيا وتحوّلت إلى النظام الجمهوري، في حين واجه الأردن والمغرب تحديات كبيرة لكنهما استطاعا البقاء.
أما بالنسبة للأنظمة الملكية الأخرى فافتقدت إلى أدنى متطلبات التطور نحو ملكيات دستورية وإن امتلكت دساتير أو أنظمة حكم.
ثانياً: الجمهوريات حصيلة الثورات أو حركات الاستقلال:
المجموعة الثانية من الدول العربية هي التي انبثقت من حروب التحرير الوطنية، كما في الجزائر واليمن الجنوبي بقيادة تنظيمات ثورية (جبهة التحرير الجزائري، والجبهة القومية باليمن الجنوبي). وقد قادت حركة التحرير في هذين البلدين بناء الدولة الثورية في تطلعاتها، وإن كانت مستندةً على حكم الحزب الواحد، وتغييب الديمقراطية، وانتهت إلى ما يشبه الاستبداد.
ونستطيع أن نضيف إلى هذه المجموعة البلدان التي حصلت على استقلالها بتسوية مع المستعمر بعد حرب تحرير محدودة، أو نضال جماهيري واسع كما في سورية ولبنان وموريتانيا وتونس. وترتب عليها قيام دولة موالية للغرب، تقودها القيادات الوطنية التقليدية حينها مع وجود ديمقراطية شكلية مستندة إلى تعددية حزبية وبرلمانات باستثناء تونس.
بالطبع فهذا التصنيف قسري، لأن هناك قواسم مشتركة بين الأنظمة الجمهورية والملكية الليبرالية، كما بين المغرب ومصر وسورية مثلاً، كما أن هناك قواسم مشتركة بين الجمهوريات الاستبدادية والأنظمة الملكية الأخرى.
ثالثاً: الجمهوريات المنبثقة من التسويات
تشمل هذه السودان الذي كان يحكم ثنائياً من قبل بريطانيا ومصر وحصل على استقلاله ضمن ترتيبات بين البلدين بعد ثوره 23 يوليو/ تموز 1952 وإجراء استفتاء على الاستقلال أو الانضمام إلى مصر، فاختار السودانيون الاستقلال. أما الصومال المستعمرة الإيطالية فقد حصلت على استقلالها مع تصفية المستعمرات الإيطالية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، في حين حصلت جيبوتي على استقلالها بعد تصفية الاستعمار الفرنسي. وقد انبثق في البلدان الثلاثة نظام وطني تعددي تقوده القيادات الوطنية التقليدية.
رابعاً: الجمهوريات المنبثقة من انقلابات عسكرية
ترتب على تراجع أنظمة ما بعد الاستقلال عن المشروع الوطني، والأزمة القومية المتمثلة في احتلال فلسطين وأراضٍ عربية أخرى، وتكبيل الوطن العربي بالأحلاف، في ظل وعي وطني وقومي متزايد، بروز محاولات للثورة المسلحة على الأنظمة، كما حدث في عُمان والمغرب وهاتان أجهضتا، أو انقلابات عسكرية حيث شهد العراق أول محاولة انقلاب عسكري فاشلة قي 1938 وتبعته سورية التي شهدت عدة انقلابات حكمت لفترات قصيرة. ثم دشن الضباط الأحرار في مصر أول انقلاب ناجح في 23 يوليو/تموز 1952 والذي أطاح بالحكم الملكي وأقام جمهورية مصر. وتلاه انقلاب تحالف وطني بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم في 14 يوليو 1958 وأطاح بالنظام الملكي الهاشمي وأقام جمهوريه العراق.
انقلابات انتهت إلى دكتاتوريات
ثم تتالت الانقلابات في العراق ليستقر الأمر لحزب البعث إثر انقلاب 17 يوليو 1968، وليقود البعث بقيادة صدام حسين الحكم لاحقاً بوجود جبهة قومية ملحقة به، أما في سورية وبعد تجربة وحدة قصيرة مع مصر في 8 فبراير/شباط 1958 حتى سبتمبر/أيلول 1961 فقد استعيد حكم العائلات التجارية المدنية، فيما عرف بعهد الانفصال، ليتم الإجهاز عليه إثر انقلاب تحالف ناصري بعثي في نوفمبر/تشرين الثاني 1963. وبعد صراعات فيما بين العسكر، انفرد البعث بالسلطة، ثم انتقل الصراع إلى داخل البعث. لينتهي بعد أن قاد حافظ الأسد انقلاباً في 22 نوفمبر 1970 لينفرد البعث بقيادة الأسد بالحكم، بوجود ما يدعى بالجبهة الوطنية الرديفة.
وفي مسلسل الانقلابات، نجح الضباط الأحرار في اليمن الشمالي، تشبهاً بالضباط الأحرار في مصر واستلهاماً لتجربتهم، في القيام بانقلاب في 26 سبتمبر 1962، ليدخل اليمن في حرب أهلية حيث دعمت مصر الثورة ودعمت الغرب وحلفاؤه بقايا الملكية، حتى تم التوصل إلى تسوية بين السعودية ومصر بعد هزيمة 1967 «اتفاق جدة» بتشكيل حكم جمهوري هجين.
وباستثناء النظام الناصري، والذي كان يملك مشروعاً تحررياً وتنموياً وقومياً ونجح إلى حد كبير في تحقيق إنجازات مهمة وحاز على دعم جماهيري منقطع النظير، فإن الأنظمة الانقلابية لم تمتلك إلا نتف مشروع وطني، وانتهت جميعها إلى استئثار النخب العسكرية وحلفائها بالسلطة والثروة، مع قاسم مشترك وهو تغييب الحريات العامة والمشاركة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
القاسم المشترك بين الأنظمة العربية، الملكي منها والجمهوري، الثوري منها والمحافظ، هو فشلها أمام العدو القومي، «إسرائيل» والولايات المتحدة. فعدى عن فشلها في تحرير فلسطين 1948، فقد انهزمت في كل الحروب مع «إسرائيل»، باستثناء حرب أكتوبر 1973 حيث مثلت «نصف نصر». واحتلت «إسرائيل» ما تبقى من فلسطين والجولان والقرى اللبنانية السبع، واستطاعت بدعم أميركي غربي أن تفرض الصلح على الدول المتنازعة معها مصر والأردن، ووقف إطلاق النار مع سورية ولبنان، وتسوية مجحفة مع منظمة التحرير الفلسطينية. ثم تطور الأمر إلى تطبيع العلاقات مع أكثر من بلد عربي، بحيث يطلق اليوم على الوطن العربي، الشرق الأوسط بما فيه «إسرائيل» وشمال إفريقيا. (وللحديث تتمة)
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3436 - الخميس 02 فبراير 2012م الموافق 10 ربيع الاول 1433هـ
لغة الخيال
أن المزج بين مراحل التاريخ والقفز على الفواصل والحدود الزمنية والتاريخية عند قرأه التاريخ الإسلامي أو مرحلة نشوء وتأسيس الدولة العربية الحديثة والفكر القومي ، يفقد الباحث أو الكاتب المصداقية والموضوعية ، خاصة تجاهله الحقائق التاريخية التي من الممكن استنباطها بشكل علمي وسليم بعيداً عن الخيال الأيدلوجي و القومي والسياسي الذي يتم فيه قراءة وتفسير التاريخ حسب الوصفات السياسية لفكر وأيديولوجية الباحث..مع التحية ..سعيد دلمن
ولهذا يبو حسن استهدفت المقاومه في لبنان
المقاومه اللبنانيه التى حررت الجنوب وفرضت شروطها القاصمه لهيبه اسرائيل وارجعت حتى رفات الشهداء حوربت بلنيابه عن اسرائيل وحلفائها من قبل حلفاء الصهيونيه والامبرياليه الانتصار الذي اعترف به العدو ولم يعترف بها العرب مازال البعض يلوم المقاومه التى مرغت انوف المستكبرين في وحل هزيمه منكره خلقت امراض نفسيه واكتئابات شنيعه في صفوف قاده اسرائيل ويصفها بمغامرات غير محسوبه لنرى من في العالم العربي يستطيع ان يقول لا يمكن لاي قوه في العالم اخذ الاسرى الا بطريقه واحده مفاوضات غير مباشره وكذا كان؟؟ديهي حر