العدد 3435 - الأربعاء 01 فبراير 2012م الموافق 09 ربيع الاول 1433هـ

الصحافة بوصفها صداقة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الكتابة الصحافية هي بالأساس تعاملٌ مع البشر. فأنتَ تكتب عنهم، ولهم، ثم يأتي الفعل منهم. إنها عملية حسابية بسيطة، لكنها مُعقدة ودقيقة جدًا، يتداخل فيها العقل، وتتداخل فيها العاطفة والعصبيات الدينية، وضيق صدر الأنظمة.

ولأنها كذلك (الكتابة الصحافيَّة)، فهي تتشابه إلى حدّ بعيد مع عمر الإنسان، الذي بقي متفردًا في أن زيادة سنينه تعني نقصانه وقرب أجل صاحبه. في حال الكتابة الصحافية فإنك تكتشف أن معادلتها هي كذلك؛ فكلما زدت في التجرُّد فَقَدتَ العديد من العلاقات والأنصار والمصفقين!

اليوم، وبعد انقضاء عام ومجيء آخر، يحق لأيّ كاتب أن يستعرض جردة الكتابة التي يضطلع بها. عليه أن يتفق أو يختلف مع ما كتبه بعد حين، رغم أنه صاحب الموضوع المختَلف عليه؛ فليست هناك يقينيات لكي يموت الإنسان دونها إلاَّ ما هو ثابت ومعروف. أما الأفكار، فهي تروح وتجيء. وأمام كلّ ذلك، على الكاتب أن يكون صريحًا مع نفسه، يساعده على ذلك، مشاركة القراء له وتفاعلهم معه، بالرأي والنصح والتنويه والتقويم. فهم جزء أصيل في عملية الكتابة، التي تبدأ بانبلاج الفكرة، لكنها لا تنتهي بنشر المقال فقط، وإنما هي عملية مستمرة مع توارد رجع الصَّدى من القراء، سواء أجاء ذلك متفقًا أم مختلفًا مع المقال.

بقلمٍ لاذع، كتبتُ كثيرًا عن التجربة السياسية العراقية بعد الاحتلال الأميركي، فأشاح العديدون بوجههم عن المكتوب، ممن هم مناصرون لعراق بلا بعث، لكنه مُحتل ومشتت. قلت للعراقيين، لا تتشفوا في محاكمة خصومكم من البعثيين السابقين في الداخل والخارج، أو ممن هم في السجون مرضى لا يقوون على شيء كطارق عزيز، فالشفقة هي جوهر القانون، فقيل إن هذا المنطق هو منطق يريد أن يعادل بين الضحية والجلاد. عاودت النقد لأداء الساسة العراقيين وقلت: إن ذهاب 90 في المئة من موازنة المشروعات إلى الفساد يعني أن العراق لن يصل إلى مستوى دولة، فلم يزِد الحال عن سابقه.

وكتبتُ عن الانتفاضة الشعبية السورية ناقدًا بشدة نظام الأسد، على تعامله الوحشي مع المتظاهرين، فلقِيت عَنَتًا مثلما لقيته من قبل، ممن مازالوا يعتقدون أن سورية هي قلعة الصمود والعروبة ضد الصهيونية، وملجأ الحركات الفلسطينية الجهادية، ولأنها كذلك، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. قلت للمقاومة، بأن عدم دعم نظام قمعي في سورية، حتى ولو كان يدعمكم، هو واجب أخلاقي لصالح مطالب سياسية لشعب هو كبقية الشعوب العربية، فقيل إن هذا الخطاب متحايل، وهو لا يتسق مع الحالة السورية التي بدا (مثلما يقولون) أن ما بها لا يزيد عن مؤامرة، تقودها الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصيهوني.

وكتبتُ عن شوفينية الإصلاحيين في إيران شعارًا وعملاً، وعن مسيرة الفشل الخاتمية طيلة ثمانية أعوام، فلم يعجب ذلك «المتنوّرين» كما يُسمُّون أنفسهم. وكتبتُ عن محمود أحمدي نجاد، وقلتُ إن على إيران أن تحجِّمه وتحجِّم دوره؛ نظرًا لخطورة تيار يميني متطرف هو على رأسه، فلم يستسغ ذلك البعض. هذه هي المشكلة التي تواجه الرأي وصاحبه إذا تحرَّر.

قبل فترة، كتبتُ عن تفكُّك التحالف الاستراتيجي بين إيران وسورية، وأن طهران بدأت تدرك أن الأسد ونظامه إلى زوال، واستندت في ذلك لأقوال أصحاب القضية، فقيل إن ما تكتبه افتراء، وفيه رائحة للأفكار البعثية، في حين اكتفى آخر بالقول: إن لا هوليود ولا بوليود يستطيعون كتابة قصة خرافية كما كَتَبْت. لكنني أعتقد ومازلت، أن ذلك ليس كما هو موصوف، ورغم ذلك، فإن كلّ مَنْ تحدث لي وعني بالـ مع أو الـ ضد هو عزيز عليّ، لأنها في النهاية جزء من عملية النقاش والتثاقف المتبادل. ولطالما افتخرت بالقارئ الكريم، الذي منحني فرصة النظر إلى أشياء هي غائبة عني فشكرًا له.

لقد كان الفيلسوف النمساوي الشهير لودفيغ فيتغنشتاين يقول: الفيلسوف الذي لا يشارك في مناقشات مثله مثل الملاكم الذي لا يذهب أبدًا إلى الحلبة. بالتأكيد فنحن لسنا فلاسفة، ولا أنصاف ولا أرباع فلاسفة حتى، ولا أيّ شيء من ذلك، لكن العبرة في قول فيتغنشتاين هو أهمية النقاش، وسلبية الصَّمت أمام الأفكار المطروحة. عادة ما أشجّع نفسي على مناكفة الفكرة، ليس بهدف المناكفة في حدّ ذاتها، وإنما لضرب بعض الرّأْي ببعض؛ ليتولد منه الصَّواب كما جاء في الأثر. هذه طبيعة الأفكار، وطبيعة تطورها أيضًا.

نعم، إنه لمِنَ النعم الكبيرة، أن كتابة الرأي تمنحك فرصة النقاش مع الجميع، سواء أرغِبت في ذلك أم لم ترغب. قد تتلقى اتصالاً على الهاتف المحمول، وقد تصلك بالبريد الإلكتروني آراءٌ كثيرة حول ما كتبت. وقد تقرأ تعلقيات القراء. بل وفي أحيان كثيرة، ينقل لك بعض الأفراد آراءهم عبر وسطاء. كلّ ذلك يضطرك لأن تتعاطى مع هذا الجمع الطيب والكريم، الذي ينمّ عن قدرة على تتبع الحدث وما يُكتَب عنه، حتى ولو كان لدى البعض آراء وكلمات مغايرة وحادَّة. وكما قال الفليسوف الصيني لاوتسي أنا خير للأخيار، وخير لغير الأخيار، وبذلك يصير الناس جميعهم أخيارًا.

في كلّ الأحوال، لا يُمكن لأحد أن يعادي الناس أو يستعديهم (ولا هم كذلك) من خلال طرح الأفكار. فالقاسم المشترك بين ما يُكتَب ومَنْ يقرأونه هو الاحترام، وعدم التشطير والتتفيه والتحريض والتخوين، فهي عناوين أصيلة في تلك العملية البسيطة في شكلها والمعقدة في جوهرها

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3435 - الأربعاء 01 فبراير 2012م الموافق 09 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:53 ص

      افضل كلمة

      وكما قال الفليسوف الصيني لاوتسي أنا خير للأخيار، وخير لغير الأخيار، وبذلك يصير الناس جميعهم أخيارًا.

    • زائر 3 | 12:50 ص

      شكرا

      اخي العزيز,لست من محبي قراءة الكتب,و لكنني تعلمت التاريخ من خلال مقالاتك,و اصبحت مع الوقت مدمنة لاقرا المزيد,فالمقالات التي تكتبها و زميلك قاسم حسين تفيد القارىء و تضيف اليه بل و تشده لقراءة المزيد و عدم التوقف..اهنئكم على هذه الموهبة و الاحترافية...شكرا

    • زائر 2 | 10:57 م

      ..وغابت عنك أشياءُ!؟

      الأستاذ الكريم، أؤكد لك انني مبهورٌ بما تكتب وأتلقّف مقالك واستشهد به في مواطن كثيرة بل و احتفظ بالكثير مما يتميّز منها وأكثرها مميّز، ولكني آخذ عليك انك تكتب بأسلوب كمن "كُشف له الغطاء" وانه يعرف جميع الحقائق والدقائق خصوصا إذا ما تحدّثت عن سوريا وإيران والعراق، بحيث أشعر أن رأيك في مقالك يقول انني (القاريء) لا بدّ لي من (التسليم) برأيك وتحليلك و استنتاجك، في حين ان هناك آراء معاكسة لها جانب من الموضوعية والصدقية، يعني ألست تؤمن أنك " عرفت شيئا وغابت عنك أشياءُ"!

    • زائر 1 | 9:56 م

      الى الكاتب

      الكاتب المحترم محمد عبد الله
      اشكركم على مقالاتكم فانا من المتابعين لها دائما وعادة ما تكون مدار حديث مع الاهل والاصدقاء

      شكرا لكم مرة اخرى

اقرأ ايضاً