تحية إكبار وإجلال لضحايا التعذيب، واحترام وتقدير عميقين لكل من تعرض لأي نوع من الإهانة والقساوة والمعاملة اللإنسانية على يد الجلادين، أو جلاوزة الأنظمة، أو منتسبي الأجهزة القمعية، أيا كان هذا الإنسان - الضحية - وأيا كانت عقيدته، وانتماؤه، وحيثما كان على وجه الأرض، وكيفما تم التعرف على تعرضه للتعذيب، ولأي سبب مورست أساليب التعذيب معه، ذلك في يومهم العالمي الذي يصادف غدا الجمعة 26 يونيو/ حزيران.
تلك الكلمات، تعجز عن احترام وتقدير ضحايا التعذيب، ولا تسعف من يبحث عن ألفاظ ومفردات ولو ضربت لها آباط الإبل، إن أراد رد الاعتبار لمن وقع فريسة سلوك حيواني شرس تنضح عنه سادية رسمية أو غير رسمية، ومهما أمعن أحد، وبذل أقصى جهده، لتضميد جراح ضحايا الانتهاكات اللإنسانية، أو محو آثارها المطبوعة في نفوس الضحايا، فلن يجد أحد لذلك سبيلا، خصوصا إذا كانت الضحايا لاتزال ترى وتسمع ممارسي التعذيب أو من يدافع عنهم يكررون نفيهم، لصحة دعاوى التعرض لانتهاك الكرامة والتعرض للتعذيب، وتؤكد براءة المتهمين من ممارسة التعذيب جملة وتفصيلا.
كما أن الكلمات مهما بلغت درجة بلاغتها ونعومتها ودفئها فإنها أعجز من أن ترد اعتبار الضحية، إذا كانت ممارسة التعذيب الذي تعرض له أحد في مرحلة، وقع فيها في دائرة الاشتباه والتهمة، وتبين أنه بريء بعد ساعة من التعذيب أو سنة من التعذيب والحجز، ولكم أن تقرؤوا ما قاله أحد رجال الدين المسيحيين في القرن التاسع الميلادي لأحد أمراء بلغاريا: «إني أعلم أنك لما تلي القبض على أحد اللصوص ترهقه بالعذاب حتى يعترف، وذلك ما لا تجيزه أية شريعة سماوية أو بشرية... ألن تصاب بالخجل والعارإذا لم يظهر الإثبات الجرمي بعد التعذيب؟ وهل تدرك مدى الظلم الذي يسببه إجراء التعذيب؟
هناك منهجان تنتهجهما الأنظمة الرسمية في العالم، حيال قضايا التعذيب وانتهاكاته، المنهج الأول: الاعتراف بممارسته من منطلق رفض الدولة وأجهزتها وسلطاتها، وكونه ممارسة مخالفة للقانون وإنهاك لمبادئ وحقوق الإنسان، تستوجب التحقق من حصوله أو عدم حصوله والتحقيق مع المتهمين بممارسته، ومحاسبة مقترفيه إذا ثبت تجاوزهم للقانون، وتعويض ضحاياه وكشف الحقيقة للرأي العام، وإعمال السبل لعدم تكرار وقائعه إذا ثبت حصولها، وعدم معاقبة وملاحقة الناشطين للقضاء عليه، والنيل منهم. تلك هي الدول التي بالفعل ترى أن ممارسة التعذيب يمثل انتهاكاَ لكرامة الإنسان وتعدياَ على حقوقه وتعتبره انتهاكا ومخالفة لمبادئ حقوق الإنسان.
أما المنهج الثاني: فهو منهج الأنظمة الرسمية التي تعمد إلى المبادرة لنفي ممارسة التعذيب، وتكذيب كل دعوى بالتعرض لانتهاك التعذيب والإهانات والتعدي على كرامة الإنسان، من دون التحقيق في ذلك، ومن دون السعي للتعرف على تفاصيل الدعاوى، وضد من توجه، ولا تسعى حتى للتعرف على ملابسات أصل الدعوى، وتبادر إلى تكريس التصريحات الموجهة والمنظمة لدفع التهم أو الشكوك التي تحوم حول ممارسي التعذيب والمتهمين بممارسته، ولا تتفاعل مع الدعوات التي تدعوا لانتصاف ضحايا التعذيب، ولا تقبل طرح قضايا التعذيب على الرأي العام، وكشف تفاصيلها. بل وتعتبر الناشطين في حقل الدفاع عن حقوق الضحايا من فئة المروجين للأكاذيب والمغرضين والمتربصين للوطن والمتأبطين شرا به.
ومن هذين المنهجين يمكن استنتاج الخلاصة التالية:
الأنظمة التي تعتمد المنهج الأول:
1. تؤمن فعلا بمبادئ حقوق الإنسان، وتعمل على تعزيزها.
2. تقر بحدوث التعذيب وتحقق في شكاواه.
3. تبحث عن المتجاوزين عن القانون، وتحاسبهم وتعاقبهم.
4. لا يوجد أحد فيها، فوق القانون.
5. تنتصف للضحية وتعاقب الجاني.
6. لا يدافع فيها المسئولون الرسميون عن الجناة، قبل استنفاذ وسائل التحقق والتحري بموضوعية.
7. كشف الحقيقة للرأي العام، لتكريس الشفافية كواحدة من معالم الحكم الصالح.
8. توفير وسائل التخلص منه، وعدم تكراره.
9. تكريم الناشطين واحترامهم وتمكينهم من العمل على المحافظة على كشف الانتهاكات من منطلق الشراكة المجتمعية.
1. إيمانها بمبادئ حقوق الإنسان للاستهلاك الإعلامي.
2. تنفي دعاوى الانتهاكات والتعرض للتعذيب، وتمتعض من إثارة أصل الموضوع.
3. تحمي منتسبي الأجهزة الرسمية الموجهة لهم أصابع الاتهام وتدافع عنهم.
4. القانون فيها، ليس فوق الجميع.
5. تعاقب الضحية مرتين، الأولى بعدم الاستماع إليه، والثانية بعدم إنصافه.
6. يدافع فيها المسئولون الكبار عن الجناة، وكأنهم شركاء يحمي بعضهم بعضا.
7. لا توفر للرأي العام أدوات إثبات الحقيقة.
8. تتكرر الانتهاكات وتتضعاف، دون رادع ولا مانع.
9. لا يسمح للجان المحايدة بالتحقيق في قضايا التعذيب والتعرف على صحة الدعاوى أو بطلانها من خلال تمكينها من القيام بذلك.
واحدة من أقوى أدوات مناهضة التعذيب - برأيي - نشر الحقائق وتوثيقها، وتقديم الشهادات على صحتها، أو الإثباتات على بطلانها، بشجاعة وثقة رسميين، ومعاقبة الجناة والمتهمين بممارسة التعذيب، وإنصاف ضحاياه، لأن ذلك يساهم بنسبة عالية لتضييق الخناق على الأيدي المطلقة لممارسة التعذيب، خصوصا إذا أصبحت قضايا التعذيب والانتهاكات الماسة بالكرامة الإنسانية قضية رأي عام. ما يجعل من الأجهزة الرسمية تتحمل كلفة باهضة معنوية ومادية، جراء منهجية النفي وتكريس منهج التشكيك في دعاوى الضحايا، في حين تكتسب هذه الأجهزة سمعة وصدقية وقوة وهيبة على المستويين الداخلي المحلي والخارجي الدولي.
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2484 - الخميس 25 يونيو 2009م الموافق 02 رجب 1430هـ