لست أدري من أي مفترق تباغت كتابة الصديق الراحل القاص الإماراتي الجميل، جمعة الفيروز؛ أم من أي مفترق تباغتك. يذهب إلى الحدود القصوى من تحسّس التفاصيل والوقوف عليها. يدرك الفارق بين أن تتفرَّج وبين أن تدخل في مفاصل موضوع الرؤية. في كل أعماله يبحث عمّا بعد رؤيته الخاصة. ما بعد الظاهر من تلك الرؤية. يبدو يائساً في محيط مشغول بترفه. هكذا يبدو الأمر لأكثرهم. ذلك مفصل من مفاصل التجني على روحه قبل التجني على نصه.
عازف العود الردئ - وليست تلك مهمّته - وعلى رغم الرداءة في العزف لم يبخل بفيض نفس لا تتيحه لك كل مصحات الطب النفسي ذات يأس، وخصوصاً حين تصدر تلك الرداءة من روح على استعداد لترميم العالم ولو على حساب انهيارها وذهابها بعيداً عن ضجيجه.
في كل أعماله يذهب جمعة الفيروز إلى درس التقصّي ولا شيء غير ذلك في مشاكسته للعالم الذي يمعن في الاختباء وراء مثاليات زائفة. اختباء يراد له أن يكون العنوان «العريض» لعالم "نحيل" في قدرته على المواجهة. مواجهة ما يدفع هذا العالم إلى الاحتشاد لوضع حد لكل ما يبعث على رهانه في الانتصار على العبث والمجهول المصطنع وتحشيد طاقاته نحو تعطيل كل ما يدل عليه.
وبالعودة إلى درس التقصي، ما الذي كان يشغل بال الفيروز؟ امرأة؟ كلنا مشغول بها. رفاهية عادلة؟ لم يك بمنأى عنها. عبور ضروري إلى المعنى؟ لا معنى لنا إن لم نتشبث بذلك. ما كان يشغله محاولة تفسير العلاقة بين أن تتواءم مع العبث بتوازن وبين أن تتركه يحدد خريطة روحك. تلك هي المسألة التي كانت تقلقه؛ بل عمدت إلى الحفر في روحه ما أنهكها حد الاستسلام إلى طارئ لا حول له فيه ولا قوة. طارئ أن تتفرج على الحياة وهي تعبث بك عبث الصبية بأداة لهوهم الصباحي.
قبل أكثر من عقدين ونصف، وفي المقهى الشعبي المطل على بحيرة خالد في الشارقة، لفت انتباهي حضور يكاد لا يريد أن يضمه المكان كأنه غصة حضور يراد لها أن تتوارى ولكن في جمع من الناس ظن ألا أحد سيعنيه شيء من تفاصيله. بعض خبث المكان شاء أن أكون هناك.
لم يتصنع اللحظة الأولى في اللقاء والمعرفة. كان رحباً تقياً في الحفاوة. تقياً بمعنى اهتمامه بتفاصيل أن تعرف كائناً ولو بالصورة عبر مقال أو خبر. وفياً حد دفعك دفعاً إلى التواري خجلاً منه.
لم يطل مكوثه في المكان. طال ترحابه وسؤاله عمن لا يعرفهم ولم يلتقهم في مدينة العين. كتاب وأدباء وأساتذة جامعيون وطلبة. لم يلتق أكثرهم إلا سمعاً أو عبر صورة تتصدَّر مقالاً أو خبراً في صحف ثلاث رئيسة: الخليج، الاتحاد، البيان.
حين أسترجع أصواتا وصورا قبل عقدين ونصف كان الفيروز في النادر منها، أجده يحتل اليوم جلها بنبوءته: «لن يتاح لنا أن نتنفس كما يجب؛ لكن الزمن لن يتيح لهم أن يتحكموا في الهواء».
لم يك الفيروز عابرا في حياة أصدقائه عدا حياة النص نفسه. كأن في اللب من الاثنين معا. كان قلقا على الحياة أكثر من قلقه على ما يعنيه من حياته هو. جمعة الفيروز محاولة لدعوة الحياة إلى فنجان قهوة ليس شرطا أن تكون في مقهى يطل على بحيرة خالد في الشارقة. كان يكفيه أن يتم ذلك ولو في عراء حر. عراء يشبه روحه التي أفتقد
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3432 - الأحد 29 يناير 2012م الموافق 06 ربيع الاول 1433هـ