من القواعد المشهورة لدى الفلاسفة والمتكلمين «تعرف الأشياء بأضدادها»، فالسمكة مثلاً تعيش طول حياتها في أحضان الماء، والماء يحيط بها من كل حدب وصوب، إلا أن الشيء الوحيد الذي لا تراه هو «الماء». فمتى إذاً تستشعر وجود الماء وأهميته في حياتها؟ عندما تخرج من الماء وترى الشيء الذي هو ضد الماء... أي «الأرض».
يُنظر إلى النزاهة على أنها ضد الفساد، والفساد هو «سوء استغلال السلطة من أجل تحقيق مكاسب شخصية»، كما نص عليه تعريف منظمة الشفافية الدولية في برلين بألمانيا، والتي تعد أكبر منظمة غير حكومية أخذت على عاتقها مكافحة ظاهرة الفساد في العالم. ووفق قانون هيئة مكافحة الفساد هو «كل فعل أو امتناع غير مشروع للحصول على مصلحة خاصة على حساب المصلحة العامة».
لا يختلف أحد منا أن الفساد أحد أكبر المخاطر التي تهدد التنمية العادلة والمستدامة في عالمنا اليوم؛ لأن الفساد حينما يستشري، سواءً على مستوى القمة أو القاعدة، فإنه يؤثر سلباً على الأموال التي تخصص للمشاريع التنموية، والنتيجة هي حرمان الطبقة المستضعفة في المجتمع من حقها في التعليم والرعاية الصحية وسائر الخدمات الأساسية الأخرى.
منذ أن أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2003، حيث وقعت عليها حتى الآن 143 دولة، وجهودها تنصب في مساعدة الدول على مكافحة الفساد في إطار حملتها الواسعة لتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد. وتعدُّ البحرين من الدول التي تحتفل سنوياً في التاسع من ديسمبر باليوم العالمي لمكافحة الفساد، كما ينص برنامج عمل حكومة البحرين للأعوام 2011-2014 على ضرورة التركيز على جودة التعليم، باعتبارها أحد أبرز وأهم المقومات لتكريس قيم النزاهة والأمانة الأكاديمية.
ونحن إذ نعيش أجواء الربيع العربي أو «الربيع الديمقراطي» كما يروق للأمازيغيين تسميته، والذي يمثل نقطة تحول تاريخية في اتجاه ترسيخ قيم ومبادئ وممارسات النزاهة ومكافحة الفساد، وأمام هذا الحال نجد أنفسنا أمام رسالة تعليمية/حقوقية سامية في مجال «التربية على ثقافة النزاهة» والتي نصنفها ضمن المشروع الكبير «التربية على حقوق الإنسان»ـ وهو تمكين الطلبة من المشاركة بفعالية في بناء دولة منفتحة تخضع لثقافة المساءلة وتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم؛ لأن النزاهة مؤشرٌ قويٌ على مدى التزام الدولة وجديتها في تعزيز مفاهيم العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية والحد من معدلات الفقر والبطالة وغير ذلك.
ندرك جيداً أهمية المؤسسات التعليمية في تعزيز القيم الإنسانية، فهي بمثابة القلاع المعرفية التي تقوم بدورها في عملية التنشئة الاجتماعية وتثقيف الطلبة على مفهوم النزاهة، ومن هنا يأتي دور وزارة التربية والتعليم بالشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بقضايا الشفافية ومكافحة الفساد لإدماج أخلاقيات التربية على ثقافة النزاهة في المناهج الدراسية، خصوصاً وأن الوزارة أعلنت مؤخراً عن خطة لتطوير المناهج الدراسية.
ربما كان من المناسب اقتراح آلية فعالة لإيجاد منهج ومقرر علمي للتربية على ثقافة النزاهة، بحيث يدرَّس على مستوى المدارس الثانوية والجامعات، فتوعية الطلبة بقيم النزاهة والشفافية وتدريبهم على ممارسته إنما يأتي في سياق تعزيز هذه القيم في نفوس الشباب باعتبارهم القوة المؤثرة والفاعلة في المجتمع.
بعض الدول العربية تبنت آليات تعزّز قيم التربية على النزاهة والشفافية، ففي المغرب هناك لجنة تحت مسمى «الخلية المركزية للنزاهة»، ومهمتها مراقبة الامتحانات وضبط حالات الغش، لضمان سلامة الامتحان وصيانة مبدأ النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص التعليمية بين الطلبة.
قد يطرح البعض سؤالاً: هل التربية على ثقافة النزاهة تعلّم أم تعليم؟
يرى الكثير من التربويين أن التربية على ثقافة النزاهة ومكافحة الفساد إنما هي مسألة تعلّم لا تعليم؛ لأن النزاهة تبدأ مع الطفل في البيت ومن ثم المدرسة والمجتمع، أخذاً باستراتيجية (التعلم الذاتي Self – Learning) في سعي الطلبة لتنمية شخصياتهم بالاعتماد على أنفسهم، وهو ما يعزّز لديهم الثقة بالذات وإحداث التغيير الإيجابي في مواقفهم وسلوكياتهم في الحياة.
بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه التربية على ثقافة النزاهة في عالمنا العربي بوجه عام، فإن البعض يعتبرها ضرباً من الخيال، بل وقد يشكك أصلاً في جدوى الحديث عنها، إذ ما الفائدة أن نعلِّم الطلبة مفاهيم مثل الفساد والنزاهة، وهم قد عاشوا وتربوا على ثقافة الفساد، أو في بيئة موغلة في الفساد؟ ثم، أليس هؤلاء الفاسدون هم أولئك الذين تخرجوا من المدارس وربما من أرقى الجامعات وهم من الطبقة العليا في القطاعين العام والخاص، أو حتى مؤسسات المجتمع المدني؟
التساؤلات السابقة لا تعفينا مطلقاً عن مسئولياتنا تجاه نشر ثقافة النزاهة في فضاءاتنا التعليمية، إن كنا نؤمن حقيقة بمفهوم «المواطنة الصالحة»، التي لا تُختزل فقط في المحافظة على المال العام، وإنما في محاربة كافة ملامح الفساد المتمثلة في المحسوبية والواسطة والشللية والطائفية والعرقية وتزوير الأوراق الرسمية واستغلال النفود والإهمال في المسئولية وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وعدم الإحساس بالمسئولية والتأخر عن العمل والانصراف المبكر وما إلى ذلك.
ما يقلقنا الأرقام التي تشير إلى أن الفساد يهدر في العالم العربي سنوياً ما يكفي لإيجاد ما لا يقل عن 20 مليون فرصة عمل، وأن قيمة الأموال المهدورة في مجال غسيل الأموال عالمياً بلغت نحو 500 مليار دولار بحسب أرقام صندوق النقد الدولي (2007)، وهذه الأموال تكفي لانتشال مليار إنسان في العالم من خط الفقر، مع الأخذ بالاعتبار زيادة معدلات البطالة والأمية من جهة، وانخفاض نفقات التعليم والصحة والإسكان والثقافة في البلدان العربية من جهة أخرى.
أجمل ما في التربية على ثقافة النزاهة ومكافحة الفساد أنها كانت المدخل الرئيسي للحكم الرشيد على مر العصور، فالإمام علي (ع) الذي اشتهر بنزاهته وعدله البالغ في توزيعه للثروة (المال العام)، بينما كان ذات ليلة يكتب قسمة الأموال من بيت مال المسلمين إذ دخل عليه رجلان في أمرٍ من أمور الدنيا، فما كان منه إلا أن أطفأ السراج الذي بين يديه، وأمر ابنه الحسن بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك، فقال: «كان زيته من بيت المال، لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه»
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3431 - السبت 28 يناير 2012م الموافق 05 ربيع الاول 1433هـ
النزاهة
صح لسان يا استاذا الكبير وحياك الله
ماأجمل مقالاتك يااستاذ
أنا من اشد المعجبين بهذا الاستاذ العظمة وانا طالب لديه احب تدريسه الشيق ..... سلمت يداك يااستاذ..