في الأزمات يختلف كلّ شيء. ليس فقط موازين القوى الفاعلة والمتصارعة، بل ينسحب الأمر ليصل حتى إلى القراءات. ليس القراءات الاستراتيجية المستشرِفة للمستقبل فقط، وإنما قراءات التاريخ المتماثل مع تلك الأزمات ومع حاضرنا. خلال الانتفاضات والثورات التي اجتاحت العالَم العربي، منذ يناير 2011 ولغاية اليوم، وقفت على عدد من الكتب التي لها علاقة وثيقة بواقع الحال، كـ تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، وعصر الثورة، وفي الثورة. اليوم، أجِد في كتاب بارينجتون مور المعنون بـ «الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية... اللورد والفلاح في صنع العالَم الحديث»، فرصة أكثر أهمية من غيرها لفهم أحوال المجتمعات التي سبقتنا، وبالتالي عكس تلك التجارب على واقعنا المعاش اليوم.
كتاب مور، هو بالأهمية البالغة، التي لا يُمكن لأيّ أحد من السياسيين أو المتابعين لشئون السياسة إلا وأن يتسمّر في قراءته بتمعّن ودقة، لما فيه من سردٍ تاريخي غني، وتحليلات بناءة ورصينة لأسباب تطور بعض البلدان نحو الديمقراطية، وانحدار أخرى نحو الديكتاتورية والفاشية. إذ ليس من الصحيح، اختزال تاريخ الدول في حوادث معزولة، أو طارئة، جعلتها تتغيّر سواءً بهذا الاتجاه أو ذاك. والمهم في ذلك السِّفر، هو استعراض تواريخ عدد من الدول، ليس في أوروبا فقط، وإنما في آسيا أيضاً، نظراً لارتباط عدد من دولها بالاستعمار الغربي.
يقع الكتاب في 652 صفحة من القطع الكبير. وهو صادر عن المنظمة العربية للترجمة، وتوزيع مركز دراسات الوحدة العربية. وقد قام بدعم مشروع الترجمة مؤسسة عبد الحميد شومان. أما المؤلف فهو بارينجتون مور (الإبن) كبير باحثي مركز الأبحاث الروسية في جامعة هارفارد البريطانية العريقة. ويقع الكتاب في ثلاثة أبواب، حيث يحتوي الباب الأول والثاني على ثلاثة فصول لكل منهما. بينما يحتوي الباب الثالث على ثلاثة فصول وخاتمة ومُلحق وثبت تعريفي، وآخر للمصطلحات. كما أنه يحتوي على تصدير لكل من إدوارد فريدمان وجيمس ك. سكوت، وهما أستاذان بارعان في العلوم السياسية بجامعَتَي ويسكونسن ويل.
يعالج الكتاب مسألة الانتقال نحو الديمقراطية والديكتاتورية كما أسلفنا، والأدوار السياسية التي قامت بها الطبقة العليا المالِكة للأراضي، وطبقة الفلاحين، باعتبارها مجتمعات زراعية، تطوَّرت إلى مجتمعات صناعية حديثة. ويتناول مسألة العنف في إنجلترا ودوره في التحول التدريجي نحو عالم جديد، ثم يتناول مسألة الثورة الفرنسية، يليه الحرب الأهلية الأميركية، كآخر الثورات الرأسمالية. ثم ينتقل إلى التجارب الآسيوية، فيتحدث عن انهيار الصين الإمبريالية وأصول المتغيَّر الشيوعي، ثم عن فاشية اليابان، وثالثًاً عن التغيير السلمي في الهند. وأخيراً يتحدث المؤلف عن السبيل الديمقراطي إلى المجتمع الحديث، والثورة من أعلى، وموقف الفلاحين من الثورة، والتخيلات الرجعية والثورية.
يتناول بارينجتون مور موضوع التحوّل الديمقراطي في بريطانيا، بشيء من الصراحة. فهو يتحدث عن تحوَّل ديمقراطي لم يكن ليحصل إلاَّ بسبب عنف هائل مارسته الطبقات العليا على الطبقات الدنيا. كما أن المؤلف لا يستثني حتى أدق التفاصيل التي أدَّت إلى ذلك، من قبيل حروب الورود التي استمرت ثلاثين سنة بين بيتيْن من بيوتات الملك إدواد الثالث يتنافسان على العرش، إلى صراع الملكية مع الكنيسة، ونمو الزراعة التجارية، وتصاعد الرأسمالية في الريف الانجليزي. وفي الخلاصة، يظهر أن من أهم العوامل الحاسمة في تطور الديمقراطية في إنجلترا هو استقلال طبقة الأعيان، والنبلاء، وملاك الأراضي عن تاج الملك.
في الحالة الأميركية، تكرر الأمر؛ ربما بسبب التماثل الإنجلوساكسوني مع الإنجليز، بعكس الحال مع الحالة الفرنسية. فالثورة الأميركية وحربها الأهلية كانا عنصرين مهمين في تحوّل الولايات المتحدة إلى الديمقراطية الرأسمالية. فالثورة كانت الفاصل ما بين الحقبتيْن الزراعية والصناعية، متشابهة في هذه الحيثية (ربما) مع فترة اليعاقبة الفرنسيين. ولاحظ مور، أن جزءًا من السلوكيات الرجعيّة، وبالخصوص ما يتعلق بالعبيد، كانت تشكّل قيداً في التحول الديمقراطي السياسي والاجتماعي، لكنها لم تكن كذلك في الحالة الاقتصادية الصناعية. وهو أمر له علاقة وثيقة بالبراغماتية الأميركية التي نشأت وازدهرت إلى اليوم.
ينتقل مور إلى نماذج الفاشية التي ظهرت في أوروبا وآسيا، ويستشهد بالحالة اليابانية. فخلال القرن السابع عشر ظهرت ثورات فلاحية (غير برجوازية) في عدد من الدول الآسيوية من بينها روسيا والصين واليابان، إلا أن التحرك في اليابان، تم حرفه لكي لا يتحوَّل إلى تحرك للفلاحين. ويرجع الكاتب ذلك الأمر، إلى قوة الإقطاع في اليابان عن مثيله في كلّ من روسيا والصين. بل إنه استمر حتى القرن التاسع عشر. هذا الإقطاع تمكَّن من فصل نفسه عن النظام السائد والقيام بثورة من أعلى لإحداث التغييرات الاجتماعية المرتبطة بالتقدم الصناعي.
ورغم أن مور تحدث بإسهاب كثير عن تكوُّن الفاشية اليابانية لا مجال لذكرها هنا، إلا أنه يخلص إلى أنها لم تكن فاشية متطابقة مع الفاشية الألمانية، من حيث إبادة جزء من طبقات الشعب، لكنها في المحصلة تتساوى معها من حيث القمع السياسي في الداخل والرغبة في التوسع في الخارج. بالتأكيد فإن تجربة اليابان هي من التجارب المعقدة جدًا في العالَم والتي بحثتها العلوم الإنسانية. وحريّ بأي باحث أن يقرأها جيداً لكي تتضح له أشياء لم تكن معروفة عن ذلك الجزء من العالَم، والذي تحدث عنها مور بشكل جيد ومفيد للغاية.
بقيت تجربة الهند في التحول نحو الديمقراطية وسط كل ذلك التشظي الإثني والعرقي والطائفي في بطنها، وذلك بانتهاج العمل السياسي السِّلمي، وهو ما يمكن الحديث عنه في مقال منفرد، نظراً لأهمية قراءته في هذه المرحلة من التحولات السياسية في عالمنا العربي. (للحديث صلة)
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3430 - الجمعة 27 يناير 2012م الموافق 04 ربيع الاول 1433هـ