لاشك في أن الحالة المثالية لوجود أية أمة، هي في تطابق حدودها الطبيعية مع واقعها السياسي، والأمة العربية ليست استثناء من هذه القاعدة. بمعنى آخر، إن الحضور المادي والمعنوي للأمة يفترض التجانس في العلاقة بين فكرة الوطن والأمة والدولة.
ووجود حالة التجزئة في الوطن العربي التي هي في أحد أسبابها نتاج الهجمة الكولونيالية، هي التي تخلق حالة الارتباك التي تصل إلى حد التشكيك في وجود الأمة. فالأمر الطبيعي والتاريخي، أن تكون الأمة متحققة في كيانية سياسية، هي الدولة. بل إن الأدبيات السياسية المعاصرة، تربط مفهوم هذه الكيانية بالدولة المدنية الحديثة القائمة على وجود دولة العدل والقانون والفصل بين السلطات، في استنساخ للمفهوم الأوروبي الذي ارتبط بعصر الأنوار والوحدات القومية، وبمدلولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في الواقع العربي، كما في معظم بلدان العالم الثالث، ارتبطت القومية بمسألة الاستقلال، وعبّرت عن حضورها بقوة ووضوح، حركات التحرر الوطني التي كانت أحد العلامات البارزة في القرن العشرين. ولأن وحدة الأمة لم تكن متحققة في الواقع العربي، جاءت القومية، بوصفها ايديولوجيا حاملة للمشروع، ومدافعة عن الحضور التاريخي للأمة. فوجودها إذاً، تعبير عن قانون التحدي والاستجابة. ذلك يعني أن القومية العربية، هي نتاج التجزئة والمواجهة مع الاستعمار، وأن تجاوز التجزئة وإلحاق الهزيمة بالمستعمر، من شأنهما أن يلغيا الحاجة إلى القومية بصفتها ايديولوجياً حاضنة لفكرة الوحدة.
ذلك يعني في أبسط بديهياته، أن الأمم التي حققت وحدتها القومية ليست بحاجة إلى حاضن لفكرة الوحدة. إذاً، فالقومية هي حالة تعبوية، أنجزت مهمتها الأولى في تحقيق الاستقلال السياسي، عن طريق الاتفاق أو بالقوة منذ ما يقرب من أربعة عقود، في معظم بلدان الوطن العربي، وبقيت قضية فلسطين أسيرة لدى الصهاينة، وأجزاء أخرى، في أطراف الأمة، لاتزال تحت الاحتلال الأجنبي، محرضة على استمرار الحالة التعبوية الشعبية.
لكن العرب لم يتمكنوا من تحقيق وحدتهم بعد إنجاز استقلالهم السياسي، وكان لذلك أسباب عدة، أهمها ما أفرزته طبيعة التحدي والمواجهة للاستعمارين الفرنسي والبريطاني. فقد أسهمت تلك الإفرازات بشكل مباشر في ألا يتحقق الحلم العربي، فكانت الحصيلة استمرار نهج التجزئة في النسيج الاجتماعي للأمة.
فالشعب العربي الذي واجه الاستعمار التركي بأرضية واحدة وسقف مشترك اكتشف أن المستعمرين الجدد، بريطانيون وفرنسيون، بعد احتلالهم لبلاد الشام، وما بين النهرين، قسموا غنائم الحرب فيما بينهم، وقاموا برسم حدود المشرق العربي السياسية، بما يتسق مع أهوائهم ومصالحهم، وأنهم غيّبوا في تلك القسمة حقائق الجغرافيا والتاريخ.
وكانت نتيجة ذلك أن غدا التشكيل الجديد للخريطة السياسية والاقتصادية للوطن العربي مختلاً ومشوّهاً وزائفاً، لكنه في الوقت ذاته أصبح أمراً واقعاً، ترك بصماته واضحة على معركة التحرر الوطني، حين امتشق كل قطر، على حدة، سلاحه للتخلص من الاستعمار الغربي وبناء دولته المستقلة وتأمين مستقبل أجياله. وعندما تمكنت تلك الأقطار من انتزاع الاعتراف باستقلالها، اكتشف الشعب العربي أن طموحاته في التحرر وصلت إلى طريق مسدود، ذلك أن الاستعمار الذي كان مندوبه السامي يصدر الفرمانات ويعين الحكام، خرج من الباب ليعود من النافذة في صيغة استعمار جديد، يتحكم في المقدرات، ويعوق تقدم الأمة ويحول دون وحدتها. واكتشف أيضاً أن حفنة صغيرة من السماسرة وكبار الملاك تستحوذ على معظم الناتج القومي. وقد حفز ذلك إلى انبثاق مرحلة جديدة من مراحل الوعي العربي، اتسمت بالمطالبة بالعدل الاجتماعي.
وبدلاً من تصدي القوى القومية لهذا الواقع، بعد أن أكدت حضورها السياسي في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الذي مضى، فإنها استنزفت طاقاتها الفكرية والنضالية في صراعها مع بعضها، ما أدى إلى تراجعها وانحسار الجماهير عنها، ومكّن أعداءها من اقتناص حالة الصراع هذه، لطعن المشروع القومي، وتعطيل حركته.
إن أية محاولة جدية للنهوض بالفكر القومي، تقتضي القيام بمراجعة نقدية للحركة والفكر القوميين، وإعادة قراءة مشاريع النهضة، بما يتسق مع التحولات الكونية، في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والمعرفة، وأن يعاد للفكر القومي ألقه، ليس باستنساخه، وإنما بتجديده. لابد من تجاوز واقع الحال، بتحقيق اختراقات فكرية، وإعادة تركيب وترتيب صياغة جديدة للمفاهيم، وتجاوز مغاليق العمل القومي، قبل الولوج في صياغة برنامج عملي لانطلاق هذا الفكر.
فالروابط الوجدانية، والعلاقة الرومانسية بالعروبة وبفكرة الوحدة التي طبعت الفكر القومي، في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، واستمرت حتى تداعي هذا الفكر بعد نكسة حزيران ،1967 ومن ضمنها كل عناصر ومقومات نشوء الدولة القومية، لم تحتم قيام هذه الدولة، ولم تمكن من الاستمرار في التسليم بيقينياتها.
لقد حققت الأمم الأوروبية وحدتها، ولم تكن بحاجة إلى الجوانب الرومانسية والوجدانية، لكي تستكمل وحدتها. لقد كان المحرض لهذه الأمم شيئاً آخر مختلف تماماً، خلاصته بزوغ قوى اجتماعية جديدة، وجدت من مصلحتها كسر الحواجز الجمركية والانطلاق إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة. وتمكنت من كنس كل المعوقات التي وقفت في طريقها. ولم يعد هناك مفر سوى تجاوز البنى القديمة، عشائرية وقبلية ونظام إقطاعي، وقيام دول حديثة على أسس تعاقدية، تم فيها الفصل بشكل واضح بين ما للكنيسة وما لقيصر.
لا مندوحة إذاً، من اجتراح وسائل أخرى، بإعمال العقل والفعل. لابد من عمل خلاق ومبدع، يستند إلى الفعل الإرادي الإنساني، يقسر الظروف التاريخية، ليس من خلال تجاوزها، لأن ذلك بحكم المستحيل، ولكن بالتغلب على عناصر الردة، ومعوقات النهوض. ونجد أنفسنا هنا مجبرين، أن نركز على عنصري الثقافة والوعي، مسلمين بأن الفكر، بحسب المنطق الهيغلي، قوة تاريخية، كما هو الفعل أيضاً قوة تاريخية
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3429 - الخميس 26 يناير 2012م الموافق 03 ربيع الاول 1433هـ