الولايات المتحدة من أوائل الدول الكبرى في العالم التي تهتم عادة بوضع إستراتيجية أمنية ودفاعية تعيد النظر فيها عادة كل خمس سنوات، وكانت آخر وثيقة إستراتيجية للأمن القومي الأميركي قد نشرت العام 2010 ولكن وزارة الدفاع الأميركية أصدرت في يناير/ كانون الثاني 2012 وثيقة جديدة بعنوان «الحفاظ على استمرارية القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات الدفاع في القرن الحادي والعشرين» وقد تصدرت الوثيقة كلمة للرئيس الأميركي باراك أوباما جاء فيها «أن أمتنا في لحظة انتقالية» وأشار إلى أنه كرئيس للولايات المتحدة حريص على أن تخرج الولايات المتحدة من هذه اللحظة محافظة على قيادتها العالمية وتفوقها العسكري وثقتها في قوتها وقواتها، وأنه لهذا طلب إجراء هذا الاستعراض لتحديد المصالح الإستراتيجية والأولويات الدفاعية الأميركية مؤكداً على ديمومة المصالح الأمنية الوطنية وهي الحفاظ على الوطن والحلفاء والشركاء وتحقيق الازدهار من خلال النظام الاقتصادي الدولي القائم على الانفتاح والحرية. وأكد أن بلاده تواجه تحديات كبيرة وفرصاً في آنٍ واحد، مشيراً إلى ازدهار آسيا الباسيفيك وإلى بروز جيل جديد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يطالب بالحقوق العالمية بخلاف رؤية المتطرفين القائمة على العنف. وأوضح أن مواجهة هذه التحديات ليست مسئولية القوات الأميركية وحدها بل يجب تعزيز كل مصادر القوة الأميركية ومنها الدبلوماسية والتنمية والاستخبارات والأمن الداخلي. وأشار إلى أن الاختيارات صعبة خاصة بالنسبة للجوانب المالية ولكن يجب ضمان أن يتوافر للقوات الأميركية أحسن مستوى من التدريب والأسلحة والمعدات واختتم كلمته قائلاً «إنه من الضروري أن تظل القيادة العالمية للولايات المتحدة من أجل الحرية والأمن في عالم متغير».
ولاشك أن تحليل مضمون هذه الكلمة يظهر لنا ثلاثة حقائق هي:
الأولى: وجود إحساس بالتراجع النسبي للقوة الاقتصادية للولايات المتحدة نتيجة التورط في الحروب وظهور الأزمة المالية وصعوبة التغلب عليها ما أدى إلى ضعف الدور العالمي للولايات المتحدة.
الثانية: إن القيادات والنخب السياسية والفكرية في الولايات المتحدة رغم إحساسها بالحقيقة الأولى إلا أنها ترفض التسليم بها وتسعى للإبقاء على قوتها الراهنة كأكبر قوة عالمية.
الثالثة: إنه رغم اتجاه الحزب الديمقراطي للحد من الدور الأميركي في الخارج عسكرياً بالانسحاب من العراق وتحديد العام 2014 موعداً للانسحاب من أفغانستان والتردد في خوض أي مغامرات عسكرية خارج الحدود فإنه يتعرض للهجوم من الحزب الجمهوري وخاصة في عام الانتخابات الحالي بأن الديمقراطيين أضعفوا القوة الأميركية وهذا يعرض الأمن الوطني الأميركي للخطر. ولهذا فإن أوباما دفاعاً عن منهجه وسياسته أبرز أن القوة الأميركية لا تعتمد فقط على القوة العسكرية بل هناك مصادر أخرى للقوة ومنها الدبلوماسية والتنمية والاستخبارات والأمن.
أما وزير الدفاع الأميركي الذي أصدرت وزارته الوثيقة فقد حرص على تأكيد أن المبادئ المتضمنة في الوثيقة كفيلة بضمان الحفاظ على القيادة العالمية للولايات المتحدة، وأن البلاد في مرحلة فاصلة وأن القوات الأميركية يجري إعادة تنظيمها لتكون أقل عدداً ولكنها أكثر قوة ومرونة وتقدماً تكنولوجياً واستعداداً للقيام بأي مهام إذا لزم الأمر للحفاظ على أمنها ومصالحها ومصالح حلفائها وشركائها والتزاماتها الدفاعية في أوروبا والناتو وآسيا الباسيفيك والشرق الأوسط وغيرها من الأقاليم.
وقد تضمنت الوثيقة ثلاثة أقسام الأول تناول استعراض للبيئة الأمنية الراهنة التي تواجه الولايات المتحدة في مختلف المناطق مع إشارة واضحة لشرق آسيا والباسيفيك وقد تم تخصيص الصين بفقرة مطولة. ثم الإشارة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا واستخدم مصطلح اليقظة العربية للتعبير عن حالة الحراك السياسي الثوري في المنطقة ولم يستخدم أي من التعبيرين الدارجين في المنطقة حالياً وهما الثورة أو الربيع العربي وأشار إلى ضرورة مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل والتركيز على أمن الخليج بالتعاون مع دول مجلس التعاون والاستعانة بها كلما كان ذلك مناسباً لمنع البرنامج النووي العسكري لإيران كما أشار لأمن إسرائيل ولتحقيق السلام الشامل في الشرق الأوسط باعتباره من الأولويات.
القسم الثاني تناول ما أسماه تحديد المهام الرئيسية للقوات الأميركية ومنها مواجهة الإرهاب وردع العدوان وهزيمته ومواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل والدفاع عن الأمن الداخلي الأميركي ومساندة السلطات والأجهزة المدنية وضمان الاستقرار ومواجهة التمرد والقيام بالمهام الإنسانية مثل أعمال الإغاثة.
القسم الثالث بعنوان «المبادئ الاسترشادية للدفاع الأميركي» ولخصها في ثمانية مبادئ وهي الحفاظ على القدرات العسكرية، والتمييز بين الاستثمارات الضرورية والاستثمارات التي يمكن تأجيلها والحد من تكاليف أداء المهام وفحص تأثير هذه الإستراتيجية على النفوذ العالمي للولايات المتحدة والحفاظ على التفوق التكنولوجي والصناعي الأميركي والاستثمار في العلوم والتكنولوجيا وتشكيل القوات الأميركية بين قوات عاملة وقوات احتياطية، والحفاظ على القوة الأميركية على أهبة الاستعداد ونسوق عدداً من الملاحظات ذات الطبيعة العامة كالآتي:
الأولى: إن الأولوية بالنسبة للإستراتيجية الأميركية الجديدة هي آسيا الباسفيك وذلك لبروز القوة الصينية وتصاعدها وهو ما يراه المخطط الاستراتيجي الأميركي تهديداً للقوة الأميركية وللأمن الأميركي، فالباسفيك هو بمثابة محور الربط بين الصين وغرب الولايات المتحدة، ولا ننسي أن أكبر تهديد تعرضت له الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية كان في ضرب ميناء بيرل هاربر من قبل اليابان ولذا فإن شرق آسيا والباسفيك يعد مصدر التهديد الأول للولايات المتحدة في هذه المرحلة الدقيقة من التطور العالمي التي تتصاعد فيها القوة الصينية اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً.
الثانية: الإشارة إلى روسيا بنوع من المودة فلم تعتبر منافس أو خصم أو عدو فقد تراجعت القوة الروسية بعد زوال إمبراطوريتها وتفكك دولها بل وبروز نوازع انفصالية داخلها وتعزز قوة الناتو والتحالف الغربي بانضمام دول شرق أوروبا بعد اختفاء حلف وارسو وقيام الاتحاد الأوروبي.
الثالثة: منطقة الشرق الأوسط ويمكن القول إنها تضم خمس قوى رئيسية هي إيران ونزوعها نحو بناء قوة نووية يمكن أن تتحول لقوة عسكرية عند الضرورة، وتركيا التي لم ترد أي إشارة لها في الإستراتيجية باعتبارها حليفاً في إطار الناتو، وإسرائيل التي يعد أمنها جزءاً لا يتجزأ من الأمن الوطني الأميركي وترتبط بها عملية السلام الشامل في الشرق الأوسط الرابعة هي ودول مجلس التعاون الخليجي لتوافر قوة اقتصادية ومالية وعسكرية ويمكن لهذه القوة أن تتصاعد، وهذه القوة هي في حالة قلق على أمنها نتيجة زيادة القوة الإيرانية والنزعة العدائية الإيرانية بفكرها التوسعي والإيديولوجي وسعيها للهيمنة والنفوذ في الشرق الأوسط، وأخيراً جيل الشباب العربي والانتفاضة العربية التي تم الإشارة إليها دون تحديد أي دولة ولكن في إطار عام وإن هذه اليقظة العربية يمكن أن تمثل تحدياً وفرصة في الوقت نفسه.
الرابعة: هي التساؤل عن العرب بوجه عام وهل اقتصار الوثيقة الأميركية على الإشارة لدول مجلس التعاون هو سعي غير مباشر لإضعاف التجمع العربي الشامل؟ أم هو إدراك بأن الدول العربية الأخرى التي كان لها دور بارز في المنطقة العربية تراجع دورها ولا يمكن أن تؤخذ في الحسبان على الأقل للسنوات الخمس المقبلة؟ أو هو اعتراف بالواقع القائم في هذه المرحلة بأن دول مجلس التعاون هي القاطرة الرئيسية للعمل العربي ولمواجهة إيران وقوتها النووية وطموحاتها؟ إن كل هذه التساؤلات تضع عبئاً ومسئولية على دول مجلس التعاون في هذه المرحلة وهو ما يتطلب قيامها ببلورة رؤية إستراتيجية لتحركها القادم وللتعامل مع المتغيرات الجديدة في المنطقة والعالم من حولها سواء في الإطار الإقليمي أو الدولي.
ومن هنا فإننا ننظر للتقرير الاستراتيجي البحريني الأول والثاني اللذين أصدرهما مركز البحرين للدراسات والبحوث (سابقاً) باعتبارهما من الوثائق المهمة التي تتناول البعد الاستراتيجي لمملكة البحرين فضلاً عن إصداراته العلمية وتحليلاته الأخرى وهو ما جعل بعض مراكز البحوث العالمية ومنها مراكز في ألمانيا تقتبس من تلك التقارير.
وفي هذا السياق، فإن مؤتمر الأمن الوطني وأمن مجلس التعاون الذي عقده مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة يعد نقطة فاصلة في بلورة مثل هذه الإستراتيجية ولاشك أن رئيس مجلس أمناء المركز محمد عبدالغفار كان له فضل في إبراز مثل هذه الرؤية وتسمية المؤتمر بأنه رؤية من الداخل ولكن بلورة الإستراتيجية تحتاج ليس فقط لمؤتمر يتحدث فيه مثقفون وخبراء بل تحتاج لتفاعل بين المفكرين وأصحاب القرار السياسي في دول مجلس التعاون وأيضاً للنظر الشامل لبيئة الأمن المحيطة بدول الخليج وتفاعلها مع بيئة الأمن الدولي
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3429 - الخميس 26 يناير 2012م الموافق 03 ربيع الاول 1433هـ