لايزال في هذا البلد الصغير، من لا يؤمن بمنطق «الرأي والرأي الآخر»، فإما أن توافقه حرفيّاً في كل ما يؤمن به ويقوله ويفكر فيه، وإلا فإن اللعنة ستحل عليك لا محالة، وسيستخدم ضدك كل الوسائل المتاحة التي قد تتعدى حدود الأدب والأخلاق، ليلقي عليك بأشد الضرر أو يمسحك من الوجود إن واتته الفرصة.
هذا الأسلوب لا يؤدي أبداً إلى أي تقدم، ولا يخلف وراءه أي فعل منتج، ولا ينم عن أية كياسة أو تحضر، فالديمقراطية قبل كل شيء هي ممارسة عملية، لا تشدق وتفاخر مزيف تفضحه ممارسات الفرد الإقصائية للطرف الآخر.
المجتمع البحريني لم يكن في القرن الماضي وسط بيئة تتقبل الرأي الصريح وإن كان مؤلماً في بعض الأحيان، وخصوصاً في ظل وجود الكثير من القيود المفروضة على هذه الممارسة، ما دفع الكثيرين إلى الصمت والتواري خوفاً من الرفض الرسمي والشعبي وربما الاجتماعي.
الوضع الآن تحسن وبلغ مراحل متقدمة نوعاً ما، ولكن لا يزال البعض مصرّاً على إرجاع الناس إلى الوراء، ومحاولة فرض وصاية على آرائهم ومصادرتها بعناوين مختلفة، تارة بحجة أنهم لا يفقهون شيئاً أو أنهم لا يحملون المعايير الوطنية الخالصة التي تؤهلهم للتفوه بأية كلمة.
ولعل المشكلة في كل ذلك، تقف عند عدم استخلاص نتائج من التضاد يفضي إلى أرضية صلبة يمكن البناء عليها لمستقبل أفضل يعم خيره الجميع، فسرعان ما يتحول التنافر إلى ساحة عراك علنية على المنابر وفي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يُنتهك فيها كل مستور، ولا تسلم منها حتى الأعراض التي يطولها القذف والذم والسباب.
ومن يدنو من هذا الأسلوب، يسيء لعائلته وأهله الذين ربوه على الأدب والخلق الرفيع واحترام الآخرين من أي ملة أو دين أو مذهب، لكنه أراد أن يخرج على كل هذه التعاليم لينتصر لعاطفته وكرامة عشيرته أو جماعته، لا أن يساند الحق ويميل معه أينما مال لكي يرتفع شأن الوطن لا شأن المجموعة أو الكيان، فالوطن يعلو ولا يعلى عليه، وكل الأنفس التي تعيش على أرضه زائلة، وهو باقٍ حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
نستدل بالوطن لأنه المظلة الوارفة التي يحتمي تحتها كل البحرينيين، ولكن أصبحت هذه المظلة مطية ووسيلة يتخذها البعض لتحقيق أهداف آنية تعبر عن مصالح شخصية، فأمست معاني الوطنية محصورة فيه وحده، يحشد حوله أكبر قدر من المؤيدين والمساندين لأطروحاته، وإن كان مآل ذلك في نهاية المطاف خلق تحزبات وكانتونات على أساس طائفي.
مثل هؤلاء لهم حظوة وكلمة مسموعة بين مريديهم، واستطاعوا خلال الأزمة التي مرت بها البحرين أخيراً، أن يوجدوا لهم خطاً محدداً ذا نزعة متطرفة، لا تصده أي اعتبارات إنسانية أو أعراف أو قيم أو مبادئ.
وما يبرهن على قدرتهم على تطويع مؤيديهم لخدمة أهدافهم، ما حصل ولايزال من استهداف للممتلكات الشخصية وحرمات البيوت، والمحلات التجارية بالتكسير والعبث بمحتوياتها بدافع الإضرار والإتلاف، ومن ثم يتبرأون من فعلتهم ويدَّعون أنهم يحترمون القانون.
هناك حراك سياسي في الشارع، أطرافه الجمعيات السياسية والدولة، وهو شأن معقد جدّاً، يجب ألا يدخل المواطنون في أتونه، فكثيرون لا يحبون الخوض فيه، وطموحهم يتصاعد يوماً بعد الآخر، رغبةً في تحسين ظروفهم المعيشية، والحصول على سكن ملائم، ووظيفة تحفظ كرامتهم، وعلاج متقدم يحصنهم من سطوة المرض، لا الدخول في صراع ليسوا طرفاً فيه.
يمارسون حياتهم اليومية (سنة وشيعة) منذ عقود طويلة بلا منغصات، وبينهم حالات تزاوج ومصاهرة وأجيال تمازجت دماؤهم ولم يعد بالإمكان فتَّ عضدهم أو تفريق شملهم أو نزع جيناتهم المختلطة، وما يريدونه حقّاً هو أن يعيشوا بسلام وأمان فيما بينهم، لإدراكهم الصادق العميق أن هذا البلد من المحال بل من سابع المستحيلات أن يتحرك قيد أنملة برجل واحدة.
وعي الناس بحقوقهم السياسية ضرورة، بل هي إحدى مرتكزات العملية الديمقراطية المتعارف عليها، ولكن هناك من يستغل هذا الوعي لتشويه الصورة والتشويش عليها، وحصر الأمر في نطاق ضيق بغرض تخويف جماعة من فقدان مكاسب تحققت، وإقناعهم بوجود طرف مقابل يحاول انتزاعها منهم، ومن ثم خلق رأي عام مضاد، مهيّأ لارتكاب أي تصرف حتى وإن خرج عن الطبيعة السوية وتعارض مع أبسط مقومات التعامل الإنساني، وهو فكر ملوث يجب التصدي له، لأنه أشبه بالسوسة التي تنخر جوف الشجرة حتى يفرغ محتواها وتبقى أغصانها يابسة لا نضارة فيها ولا عنفوان، ولا نرضى لوطننا أن يطوله هذا المصير
إقرأ أيضا لـ "أحمد الصفار"العدد 3427 - الثلثاء 24 يناير 2012م الموافق 30 صفر 1433هـ
اه يا البحرين
مفاهيم الإقصاء لا تصنع تقدماً بعيد الأمد
عنوان جميل مكتوب على جبين ديرتنا البحرين حاليا
يمارسون حياتهم اليومية (سنة وشيعة) منذ عقود طويلة حرام الفرقا والتفرقه بينهم