ثمة رؤية رومانسية تُستشف من بعض التنظيرات إزاء الربيع الخليجي، بل قل انتقائية في أفضل أحوالها إن لم تكن رافضة له وناكرة حدوثه. رؤية تغرق في العموميات وتتجنب تسمية الأشياء بأسمائها وكأن المشاركين في صناعة الحدث أشباح، ممارسة ذلك تتم بقصد وأحياناً بجهل وليس بالضرورة عن سوء نية، فمواقع أصحاب الرؤية ومصالحهم تكمن وراء ذلك، ومنه لا عتب ولا لوم عليهم، بيد أن تحليلاتهم لا شخوصهم ستكون عرضة للمجهر والمقاربات النقدية.
بعضهم يحلّل لدواعي أجندة فضائيات أو المشاركة في مؤتمرات دولية أو كتابة تقارير تحليلية لهذه المؤسسة أو تلك، بغية التسويغ والاسترزاق بالدوزنة آناء الليل وأطراف النهار لتحليلات تخدم غايات محددة ومشاريع مكشوفة أو مجهولة تفتح الواقع السياسي على احتمالات خطيرة. وعليه لا مبالغة في النظر لمحاضرة الإماراتي عبدالخالق عبدالله في معهد كارنيغي والمنشورة في مجلة «المستقبل العربي» (العدد 391 سبتمبر/ أيلول 2011)، بعنوان «الربيع العربي: وجهة نظر من الخليج العربي»، من كونها نموذجاً للعمومية والانتقائية.
أبرز ما ورد فيها، أن وصف الأحداث التاريخية التي تشهدها المنطقة بالربيع العربي فيه «تبسيط» لأنها برأيه تحولات تاريخية «مدهشة» لم تستورد من الخارج، وليست استثناء بل هي تأسيس يلغي ما قبله من مؤسسات وشخصيات وعقليات وسلوكيات ويؤسس لما بعده، مؤكداً «ليست في تونس، ومصر وليبيا وسورية واليمن والبحرين فقط، بل تشمل المنطقة العربية بأسرها». ويواصل في نظرته الرومانسية للربيع: «الثورة الحقيقية حدثت في القلوب والعقول... من البديهي أن سنة التأسيس صعبة، ليس بسبب نهاية النظام القديم، بل ولادته الجديدة... أما ظاهرة المسيرات والمظاهرات وخصوصاً أيام الجمعة فهي تستحق دراسات سوسيولوجية موسّعة».
إلى هنا، والكلام النظري جميل وموزون، الأجمل حين يفيد: «على رغم ادّعاء بلدان الخليج أنها غير معنية برياح التغيير، وأنها حالة استثنائية محصنة ضد الإصلاح الديمقراطي، فإن الحقيقة عكس ذلك! ومهما بالغت في تأكيد خصوصيتها فإنها لا تعيش في فراغ... بيد أن مطالب الإصلاح والتغيير اصطدمت بالحالة الخليجية العصيّة على التغيير، إذ وظفت الحكومات مواردها وإمكاناتها الضخمة لمنع انتقال عدوى التغيير». وكأن الحدث انتهى يشير إلى أن استحقاقاته جاءت متفاوتة، بعض البلدان تضررت، بعضها تبدو غير معنية برياح التغيير، وبرأيه تجربة البحرين مريرة وصعبة وعنيفة جعلتها أكبر الخاسرين من الثورة العربية، وعلى رغم قناعته بوجود إجماع وطني لتحقيق العدالة الاجتماعية والإصلاح الدستوري والديمقراطي، فإنه يقفز على الواقع، باتراً الحقائق في تبريره الخسارة قائلاً: «المعارضة البحرينية اندفعت كثيراً وبعيداً عن مطالبها، وحدث تخندق طائفي حاد»! كيف؟
هنا، يبدو ابتسار الحقائق الفاقعة أسهل أدوات تفسير نتائج الحدث السلبية بإلقاء المسئولية على عاتق كل أطراف المعارضة، واصفاً الحالة «بالتخندق الطائفي»، وكأن «الحدث السياسي» وليد احتراب أهلي طائفي بين أفراد مجتمع طالما عرف بسلميته والتعايش بتعددية، وكأن لا علاقة للحدث لا من بعيد أو قريب بجبل مطالبات شعبية تصدرها الدستور وملفات الفساد والتمييز والتجنيس وسوء توزيع الثروة وتدهور الخدمات والإسكان وغيرها.
هكذا ببساطة تحول «الصراع السياسي والمطالبات الشعبية» عنده إلى «حالة تخندق طائفي»! عجيب ألا يقرأ خطاب المعارضة ومشروعها بنداً بنداً كي نقتنع «بالانحراف» من وضع سياسي إلى طائفي تسببت فيه المعارضة فقط، وليس لبقية أطراف اللعبة السياسية أو القصف الإعلامي التحريضي أي دور. بل إن الالتباس يتضح حين يستدرك منوهاً إلى «انسحاب المعارضة من الحوار التوافقي ممثلة في جمعية الوفاق المعروفة - على حد قوله - بمواقفها السياسية والفكرية المعتدلة». وعليه يجوز سؤاله: كيف تكون المعارضة معتدلة وتتسبب في الوقت نفسه باندفاعها بتخندق طائفي؟
على الصعيد الإقليمي تحدّث عن نصر ثلاثي الأبعاد للنظام الخليجي، في استقلالية موقفه عن أميركا، وفي وقفه زحف الربيع إلى الخليج، أما قطر فهي الرابح الأكبر سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً، وكذا الإمارات، لماذا؟ بالطبع لأن قطر تملك «محطة الجزيرة» يقول: «انحازت الجزيرة إلى الثوّار وأدت دوراً تعبوياًَ وأصبحت صانعة للحدث»، لكن دون الإشارة إلى تجاهلها للحدث الأقرب منها جغرافياً، ولما وصفه إعلامي عربي بأنها «تدير جبهةً سياسيةً وتمارس إعلاماً مضللاً وتغطيتها تحرض على العنف وتعاني من خلل الصدقية».
إن ما يجده عبدالخالق نجاحاً باهراً، هناك آخرون لهم بشأنه رؤية مغايرة، أضف إليها عدم تطرقه لإشكالية الدستور القطري المحكوم عليه بالبقاء نصاً في الأدراج. أما الإمارات فقد حققت الأرباح بتجاوز تداعيات الأزمة المالية وإعادة جذب رؤوس الأموال الهاربة من مناطق التوتر القريبة والبعيدة، إلا أنه يلامس الوضع السياسي بخجل، من دون التذكير باعتماد نظام تعيين الناخبين، أو الأسباب الحقيقية لاستمرارية الصفة الاستشارية للمجلس الوطني الاتحادي.
ومنه، هل يعقل تحليل عناصر الربيع الخليجي دون تفكيكها بشفافية ومعاينة قواه السياسية وأوضاعها وممارستها للحقوق السياسية، بل وتجاهل حقوق الإنسان المنتهكة وما آلت إليه الأوضاع ولاسيما ممن يأخذ على عاتقه مشروعاً حضارياً؟ هناك إشكالية جوهرية تطرق فيها إلى نجاحات للدبلوماسية الخليجية المستندة إلى موقع قوة لا ضعف، والمقصود بها «المبادرة الخليجية لليمن» دون أي اعتبار لموقف الشعب اليمني الثائر الذي اعتبر المبادرة تدخلاً في شئونه الداخلية، وإبقاءً لمرتكزات النظام الدكتاتوري ومدخلاً لحرب أهلية، إلى جانب تسرعه بالاستنتاج أن بعض القرارات الخليجية حدثت في لحظة مصيرية عبرت عن افتراق خليجي أميركي، وأن المعادلة الأمنية الخليجية إيجابية لأن دوله أثبتت تماسكها واستقلاليتها عن القرار الأميركي، بل وأكثر ثقة بالنفس في التعامل مع الجار الإيراني الصعب. هل حقاً ما يقول؟
إن كان الأمر كذلك، فماذا يعني تزايد التواجد الأجنبي واستنفاره في المنطقة، بل والتدخل الأجنبي في الشئون الداخلية وصفقات الأسلحة بمليارات الدولارات على حساب قوت المواطن الخليجي واستنزاف عائدات النفط؟ أبعد كل ذلك يتم الحديث عن حساب للأرباح والخسائر؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3427 - الثلثاء 24 يناير 2012م الموافق 30 صفر 1433هـ
الان العمل في الخليج بالكوته
الان اصحاب التحليلات والتنظيرات هي تسعر بالكوته وعلى حسب التفصيل وكل شيء له مكياله ، واحيانا خوفا من الحرمان من قطعة الخبز ، فقد تعودنا من بعض المثقفين الاسترزاق على حساب الامة ويا كثرهم في الخليج بل ولج بها فقهاء ، بئس من باع دينه بدنياه .
دائماًً متألقه ياأستاذه
حتى الاكاديمين والمثقفين من امثال عبدالخالق لايقدرون على الخروج من فلك حكوماتهم فهم تابعين لهم الاالمنصفين امثالكِ وقليل ماهم
دائماًً متألقه ياأستاذه
حتى الاكاديمين والمثقفين من امثال عبدالخالق لايقدرون على الخروج من فلك حكوماتهم فهم تابعين لهم الاالمنصفين امثالكِ وقليل ماهم