تشهد صفحات تاريخ الأمم بأن الثورات ليست أحداثاً قصيرة أو لحظات براقة، بل هي عملية مؤلمة ممتدة على طول الزمان، معيار نجاحها هو قدرتها على إحداث تغييرات عميقة تقود إلى إقامة نظام أفضل، وفتح آفاق جديدة للتقدم والانطلاق.
ففي حياة كل إنسان، لحظات فارقة وسويعات نادرة وأسابيع فاصلة وأحداث مؤثرة تظل عالقة في العقل والبال.أما في حالتي، فمثلما مرت بأحداث عظام في تاريخ مصر الحديثة عاصرت كثيراً منها، لأجد نفسي هذه الأيام شاهداً مرة أخرى على ثورة مصرية جديدة في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وواقفاً اليوم لتخليد الذكرى السنوية الأولى لهذه الثورة التي مثلت نقطة تحول مفصلية في تاريخ مصر الحديث، إذ إنها دشنت عصراً جديداً يستمد شعاره من شعار الشباب الثوار في ميدان التحرير (الحرية - الديمقراطية - العدالة الاجتماعية).
وفيما أنه لا جدل ولا جدال، بأن هناك الكثير من أهداف الثورة التي ربما لم تتحقق حتى تاريخه وأن هناك عقبات تتعثر فيها حالياً مسيرة الثورة - بل - وإن هناك آراء ترى أن الثورة لم تكتمل بعد، فإنني إذ أزعم بكل تواضع - وبعد نزولي إلى ميدان التحرير في آخر زيارة للقاهرة - أن الثورة ماضية بلا محالة بكل سراتها وضراتها، فأنا أرى في الوقت ذاته أن تحقيق هذه الأهداف في مصر، بعد ثورة 25 يناير، مرهون بقدرة المجتمع بمختلف تياراته واتجاهاته وأطيافه، على تجاوز خلافاته، والالتفاف حول مشروع وطني تتراجع أمامه كل الاعتبارات والتوجهات، حتى نتمكن من بلوغ الممر الآمن لمرحلة النهضة والتغيير.
فاليوم تشهد مصر الذكرى الأولى للثورة، وتقيم خطوتها الأولى بمشوار الألف ميل. فمنذ أيام قلائل، أنهينا انتخابات مصر البرلمانية بنجاح وشفافية في الداخل والخارج ليبدأ مجلس الشعب القيام بمهماته، ونعكف حالياً على التحضير لانتخابات مجلس الشورى التي سنبدأها يوم 29 يناير الجاري.
وليس ثمة شك، في أن توحد القوى السياسية والفكرية، في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به مصر، هو فريضة سياسية واجبة. فالإفراط في الاختلاف والصراعات والتناحر، يهدد وحدة الصف وصلابة الجبهة الداخلية أمام تحديات الثورة في الداخل والخارج. والرسالة هنا أن مثل هذا التوافق المجتمعي، لا يعني بالضرورة التطابق والتماثل في وجهات النظر، لكنه يعني بكل وضوح وضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات، لأن اللحظات الفاصلة في تاريخ الأمم، لا تقبل تنازع الواجبات الوطنية تحت أي دعاوي أو مبررات.
صحيح أن هناك جهوداً حثيثة ومبادرات كثيرة للوصول إلى مثل هذا التوافق، وكلها مبادرات طيبة وتعقد بمشاركة معظم الأحزاب والقوى الدينية والسياسية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، إلا أن المطلوب من الجميع هو التحلي بثقافة الاختلاف لضمان نجاح هذه الجهود، لأن الحرية مسئولية... وثقافة الديمقراطية التي لخصها المفكر الأميركي جون ملتون بقوله: «أعطني الحرية لأعرف، ولأتكلم وأناقش بحرية وفقاً للضمير»، تعني أول ما تعني قبول الرأي الآخر، وهذا هو التحدي الحقيقي أمام تحقيق توافق مجتمعي يعد الشرط الأول لنجاح الثورة وصياغة النموذج الذي نريد الوصول إليه.
إن ثورة 25 يناير - على عكس الثورات البريطانية والفرنسية والإندونيسية - لم تحركها قيادات أو زعامات، وإنما حركتها رغبة عارمة لانتشال مصر من حال الجمود السياسي التي دخلت فيها على مدى العقد الماضي، وفى ظل استمرارية العمل بقانون الطوارئ المعيق للحريات العامة، وأيضاً تهيئة الشارع المصري لقبول مشروع التوريث، وذلك في الوقت الذي اتسعت فيه الفجوة بشكل صارخ وغير مسبوق في تاريخنا بين أقلية ثرية، وغالبية عظمى تئن تحت وطأة الفقر وتدنى مختلف أنواع الخدمات الصحية والتعليمية أو غيرها.
وهو ما دفع الشباب الثائر دفعاً لوضع حد ونهاية لذلك كله، مستخدمين ومسخرين أحدث التقنيات والتكنولوجيا الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي (المدونات - الفيسبوك – التويتر) لخدمة ثورتهم التي نالت إعجاب وتقدير دول العالم كله زعماءً وشعوباً، والتي وصفوها بأنها أعظم ثورة في العالم، بما فيها الثورتان الفرنسية والإنجليزية، من منطلق كونها تحلت بأشياء غير معهودة في أدبيات الثورات، فبالإضافة إلى كونها ثورة شبة بيضاء، على رغم بضع المئات من الشهداء، ولاسيما مع الأخذ في الاعتبار عدد القتلى والمصابين الذين وقعوا في ثورات أخرى - فلأول مرة تحدث ثورة ثم يقوم ثوارها بإعادة تجميل مواقعهم كما كانت عليه من قبل الأحداث.
فمن خلال زيارتي لميدان التحرير، تلمست روحي بجلاء تلك الصورة الجمالية الرائعة التي أبدعتها أنامل شباب الثورة، متجسدة ملامحها في الأتي:
- ثورة صححت الصورة النمطية المأخوذة عن المصريين في ظل شهادات الإعجاب والإشادة التي سطرها وسجلها كبار زعماء العالم، والتي ستظل موضع فخر في العقل الجمعي للشعب المصري.
- ثوره تميزت – دون غيرها من الثورات – بانحياز قواتها المسلحة لها، ولمطالبها المشروعة.
- ثورة استهلها الشباب وانضمت إليها كل شرائح المجتمع المصري بمختلف توجهاته وأطيافه السياسية، لتصبح ثورة شعب انتفض لمواجهة وإسقاط فساد استشرى على مدى نحو ثلاثة عقود.
- ثورة تجلت فيها أروع مظاهر الوحدة الوطنية، حيث وقف المسيحي يحمى ويدافع عن المسلم وهو يؤدى الصلاة والعكس، وإذا جرح أحد، هب الآخر لإنقاذه ومساعدته.
- ثورة عكست روح الدعابة والمزاح التي يتميز بها المصريون، وذلك من خلال المشاهد والممارسات اليومية التي شهدها العالم كله... ثورة مارس خلالها الشباب الثوار مختلف أنواع الفنون شعراً ونثراً وزجلاً وغناءً، وكذا نصب وإقامة محاكمات صورية لرموز الفساد في ميدان التحرير، كمتنفس لهم للتعبير عما يجيش في صدورهم من القصاص بكل من أفسد البلاد سياسياً ومالياً.
وختاماً يجب ألا ننسى أن نقدم تحية إجلال وتقدير لرجال القوات المسلحة الذين بذلوا قصارى جهودهم - وبقدر إمكاناتهم - للحفاظ على مصر من التدمير والخراب، وعملوا على الانحياز إلى الشعب وتعهدوا بالعمل على تحقيق مطالبه التي نادى بها وعمل على الحصول عليها، كما لا ننسى أيضاً أرواح شهداء الثورة بكل أطيافهم، التي أعادت دماؤهم لمصر ثوبي الكرامة والعزة، فرحمة الله عليهم جميعاً.
فكما دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة لجعل يوم 25 يناير عيداً قومياً وإجازة رسمية، فإنني أدعو جميع المصريين في الداخل والخارج لكي يكون يوم 25 يناير عيداً شعبياً للوطنية والإبداع، يوم نلتقط فيه الأنفاس، ونبدأ فيه سوياً، من جديد يداً واحدة تبني مصر وتدفع عجلة الإنتاج والنماء، ليشهد العالم كله العبقرية المصرية في أبهي تجلياتها
إقرأ أيضا لـ "محمد أشرف حربي"العدد 3427 - الثلثاء 24 يناير 2012م الموافق 30 صفر 1433هـ