صار المثقف العربي الذي يقف اليوم أمام المعضلات الهائلة والمصادرة والقمع، أشبه بمثابة مقاوم يحمل بيده قنبلة أو قذيفة تكاد تنفجر أمام من يخشاه، فغدا مصادراً خائر القوى والعزائم تجاه سطوة السلطات، وغدا عاطلاً عن عمله الأهم، منشغلاً بأعمال أخرى تكاد لا تفقه ما يحمل من اشتعالات، في حين كان يعيش عقوداً من الغربة الداخلية في أرض وطنه بسبب علاقته مع السلطة من جهة، وعلاقته مع أبناء شعبه من جهة أخرى.
ولأن المثقف العربي كان في فترةٍ من الفترات قائداً للأمة من خلال كتاباته وأفكاره، كالمثقف المصري مثلاً عندما كان يهز مضاجع بريطانيا في الأربعينيات، والجزائري الذي كان يجاهد قبل الجند ضد الفرنسيين الذين كانوا يحسبون للمثقفين ألف حساب، لأنه كذلك باتت الأنظمة العربية تترقب بعين القلق أن يصدح مثقفوها بكلماتهم، وللأسف الشديد فإن بعض المثقفين التزموا الصمت واكتفوا بالمشاهدة والانعزال في برجٍ عال لتعلو أصوات مثقفين مزعومين حركتهم السلطات وأوصلتهم إلى أعالي المراكز - على رغم وجود من يستحق ذلك فعلاً منهم - فصار في واجهتنا الثقافية أشباه مثقفين، لايزالون يقتنصون فرصاً لتسفيه كل ذي علم - إلا من رَحِم ربي - ولتكبر الفجوة بين المثقف والمتلقي في مختلف الأنساق الثقافية والإبداعية، ذلك لأن المثقف (الموضوع) ما هو إلا صورة شكلية كرستها الأنظمة لتتكلم باسمه عن الثقافة والمثقفين، وبالتالي تبث ما تريد هي لا ما يتطلبه العصر والزمن من ثقافة ومواضيع واحتياجات للمواطن المهمّش في كل تلك العملية.
ولأن غربة المثقف تكبر يوماً بعد يوم، كبرت عقدة الخوف من السلطات التي خلفتها أساليب التربية تارةً، وبعض المناهج الدراسية التي تكاد تكون تاريخيةً بما تحمله من مواضيع ومعلومات ضاق بها الشارع الثقافي لقدمها، إضافة إلى بعض الفضائيات التي ما برحت تبث سمومها للعربي لتخلق بينه وبين الثقافة فجوة بتلك البرامج المهجنة بأفكار سلبية ودخيلة على مجتمع صار عرضةً لكل غريب ودخيل. والأهم من كل هذا وذاك هو ما تعرض إليه المثقفون منذ القدم من تصفيات واعتقالات بسبب عدائهم مع السلطات المستبدة، الأمر الذي أدى إلى خوف بعضهم من تكرار التجربة التي قد تودي بهم إلى السجن مع أول كلمةٍ ينطقونها.
عزلةٌ كهذه للمثقف العربي أدت إلى بروز المثقف (الموضوع) الذي لا يعي اشتغالات الجمهور الأخرى، والتي كان البحث عن قوت اليوم أهمها وأكبرها تأثيراً على مسيرة حياته، فقد انحشر في زاوية من البحث بفعل الأنظمة السياسية التي غيّبته لئلا يعي ما يدور من حوله، وبذلك انصرف عن الثقافة والعمل الثقافي، وعاش حالة من الانعزال المعرفي، فتقوقع المثقف العربي وتقوقع معه الآخر المتلقي لتسلم الثقافة إلى مقبرة قد تضيق بهم يوماً وتلفظهم جميعاً.
ومع تردي مستوى الثقافة العام صار لزاماً على المواطن أن يصفق ويفرح لكل كلمة تقال له وعنه مهما كان واقعها مريراً حينما تجمل ببعض العبارات المنمقة، لتعلو غربة المثقف في وطنه وغربة المواطن عن ثقافته الحقة.
لا أبرر للمثقفين عزلتهم في مقالي هذا، بل ألومهم على ما وصلت إليه الحال العربية اليوم وما يعانيه العربي من مشاكل لا يستطيع تخطيها من دون قادة رأي يستطيعون تفكيكها وحلها بعيداً عن السلطة التي تريد لثقافة ما أن تنتشر دون غيرها
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3425 - الأحد 22 يناير 2012م الموافق 28 صفر 1433هـ
ضحكة ألم
عزيزتي سوسن)))) اسعدت صباحاً تعليقاً على مقالك اود أن اقول بأنه لايزال بأمكان المثقف العربي أن يلعب دوراً كبيراً في مجال استخدام ثقافته في رص الصفوف و مداوات الجروح التي اصيب بها الوطن من خلال نشر ثقافة التسامح وتأليف القلوب بأستخدام الكلامات التي تحث على حب الوطن و النقد البناء المقبول من جميع الاطراف والحث على عدم استخدام العنف وقوة المنطق لا قوة الجهلة والغوغائيين .
Ailisml/ فلسطين
مقال جميع و يصف العيوب و الحسنات تسلم ايدك
صدقت
ماشاء الله اخت سوسن اليوم قررت ان اقرا مقالك قبل.خروجي للعمل لانني عرفت انه سيكون رائعا المثقف اليوم مجرد اداة للصمت او الطبل قليل جدا ترى مثقف يقوم بدوره التنويري قليل جدا اذكر مثلا الشاعر حسين السماهيجي والشاعر جاسم الحاجي والشاعر والنقابي كريم رضي ومجتبى التتان وغيرهم