يوجد في بريطانيا 200.441 معلِّماً. اليوم، تسعى الحكومة البريطانية، لفصل 17 ألفاً منهم! السبب هو التخلص من المعلِّمين «غير الأكفاء». هذا الإجراء سيحسِّن من أداء التعليم في بريطانيا، عبر إزاحة غير المؤهلين، الذين لا يمتلكون الصفة القانونية لمهنتهم، والتي يطلق عليها «معلم مؤهل». وهي شهادة تمنَح لهم بعد حصولهم على مؤهل علمي، مع قضاء فترة تدريب أوّلية لمدة سنة، لاكتساب المهارات الأساسية للتدريس. هذان الشرطان، تستتبعهما مراقبة للأداء. وقد تقرّر أخيراً أن تمنَح المدارس سلطة الإقالة لمعلمين غير أكفاء، لأيّ حالات تقِف عليها الإدارات التعليمية. وهي خطوة تأتي ضمن وجبة من المراجعات التي تقوم بها بريطانيا باستمرار.
بالتأكيد، فإن معايير «الإخفاق» و «الضعف» و «عدم التأهيل» تختلف في بريطانيا، عنها في دولنا العربية، لكن الأهم من كلّ ذلك هو مدى القدرة على الاطلاع على أسس التطور العلمي لدى الآخرين، عبر الاستلهام منه ومن إرهاصاته ومآلاته. الموضوع ليس ملائكياً، لكنه حريٌّ بأن يُقرأ. البريطانيون لم يكونوا شيئاً يذكر في مستويات التعليم مقارنة مع دول أوروبية أخرى، لكنهم اليوم، وبوصولهم إلى مستويات متقدمة من التعليم العام والجامعي، يكونون قد حققوا معجزة، نقرأ اليوم عن مدى حرصهم على المحافظة على تلك المستويات وصونها.
لنرجع إلى التاريخ قليلاً لكي نفهم الفكرة أكثر. البريطانيون لم تكن لديهم أصالة في الكثير من العلوم. فقد كان الفرنسيون متقدمين عليهم في مجال العلوم الطبيعية على سبيل المثال. بل كان الرجعيُّون في بريطانيا في نهايات القرن الثامن عشر، يتخوَّفون من بعض العلوم كالرياضيات والفيزياء. الفرنسيون هم مَنْ اخترع مغزل جاكار، والسفن المتقدمة. وكان لديهم معهد إيكول بوليتكنيك الراقي، وصاحب التحريف النوعي. وكان الألمان هم مَنْ يمتلكون مؤسسات التدريب التقني المتقدمة، كـ بيرغاكاديمي البروسية. أما في بريطانيا، فقد كانت مدارس القرى في اسكتلندا الكالفينية هي أفضل مما هو موجود في إنجلترا. وقد كانت الجامعتان الإنجليزيتان الوحيدتان، وهما أوكسفورد وكامبريدج تعانيان من التخلف. ولم يكن لديهم تعليم ابتدائي قبل مجيء لانكستر. بل كان التعليم في بريطانيا مبتلياً بالنزاعات الطائفية، التي خلفتها الحروب الدينية، كما يذكر ذلك المؤرخون كـ هوبْزباوْم.
أذكر ذلك، لكي أدلِّل على أمريْن. الأول: أن المستوى التعليمي التي وصَلت إليه أوروبا، وبالتحديد بريطانيا، لم يكن ليصير على شكله الحالي لولا وجود النظام السياسي الحر، الذي تعيش من خلاله العملية التعليمية أزهى أيامها. بالتأكيد، ليس بالضرورة أن تكون الحالة السياسية متماثلة مع ما هو موجود في بريطانيا لكي تزدهر العلوم أو التعليم، ولكن وجود نظام معقول في تحرره السياسي، وإحاطته لأقصى نقطة من الوطن سياسياً وحقوقياً وإثنياً يُمكنه أن يولِّد ذلك. فمشكلة الأنظمة السياسية القمعيّة غير الراشدة، أنها تتقدم في السياسة والاقتصاد طبقاً لإيقاع الطبقة الأوليغاريَّة الحاكمة، وليس عبر الاحتكام إلى البني السياسية والاقتصادية الطبيعية، التي تحاكيها السياسة وبقية العلوم، والتي لا تحترِم سوى ما يتوجَّب احترامه وليس تقديس الأشخاص، والجماعات المتنفذة والطوائف.
عندما تقرأ التحولات السياسية التي اجتاحت أوروبا، وما أفرزته تلك التحولات من أنماط جديدة من التفكير والاهتمامات تدرك ذلك جيداً. صحيح أن بريطانيا، لم تحدث فيها ثورة حمراء، لكنها كانت قريبة من اللهب الذي أحدثته الثورة الفرنسية، وحصلت فيها تمرُّدات عُماليَّة، وحركات سياسية مطالبة بالإصلاح. وربما جاء العام 1832م ليضع إسفيناً جديداً في عملية التحديث السياسي في بريطانيا، سبق انطلاق الثورة الصناعية بعدة سنوات. وقد أثر ذلك الانفتاح على إنتاج عدد من الفلاسفة الإنجليز، كـ جون ستيوارت مل، الذي كانت نشأته الأولى، التأثر بالفلاسفة الفرنسيين، الذين ذاع صيتهم بعد التغيير الأحمر.
الأمر الثاني، أن تطور بعض الدول الأوروبية وبالتحديد فرنسا، والذي سبق التطور البريطاني لم يبدأ بشكل حقيقي إلاَّ بعد اندلاع الثورات فيها. دققوا في الكثير من التطورات العلمية والاختراعات التي حصلت، سنرى أن نورها قد انبَلَجَ بعد العام 1789م عندما اندلعت الثورة الفرنسية. البريطانيون وقبل حصول التغييرات السياسية في نظامهم السياسي كانوا في مستوى أقل مما هو موجود لدى نظرائهم من الجيران. ما أعنيه، أن الثورات، ليست حالة سياسية أو اجتماعية مجرَّدة، بل إنها تنطوي على أبعاد علمية وثقافية، تدفع بتطور الكثير من العلوم الهامِدة، كما حصل بالنسبة لعلوم الكيمياء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي الوقت نفسه ابتكار علوم جديدة أو تطويرها كما كان الحال بالنسبة للجيولوجيا.
في الولايات المتحدة الأميركية وبعد اندلاع الثورة فيها واستقرار حكمها السياسي الديمقراطي، ظهرت السفينة البخارية والأسنان الصناعية والأسلاك ذات الغطاء العازل والمسدس والآلة الطابعة والمطبعة الدوارة، على رغم أنها كانت محتلة من قِبَل الإنجليز، وكانت مبتلاة بحروب أهلية وجانبية. هذا الأمر بدا واضحاً في الكثير من النماذج الأخرى في العالَم. فعندما تكون البلدان أو الأنظمة السياسية منغلقة سياسياً، تنغلق معها العلوم، أو تحتكَر كما كان الحال للكثير من الاختراعات، التي استخدمتها العروش المالِكة، والطبقات الأرستقراطية بشكل حصري، وبالتالي فإن النتيجة تقول، إن العلاقة ما بين الثورات والعلوم هي ذات علاقة مُجرَّبة، قد حددتها حركة التاريخ، كما ذكرنا من قبل.
في كلّ الأحوال، فإن التعليم، مرتبط أساساً بالنظام العام للدول. فإذا كان النظام قائماً على أساس منفتح، وعملية تحديثية وتداوليّة، وقادراً على المراجعة، وأخذ المبادرة، بعيداً عن التأثيرات الأخرى، وجامعاً للمواطنة، والتباينات المجتمعية فإنه حتماً سيكون قادراً على خلق نظام تعليمي متقدم، أما إذا وُجِدَ العكس، فلا رجاء من شيء إذاً
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3423 - الجمعة 20 يناير 2012م الموافق 26 صفر 1433هـ
مهرجان
وينك يا وزارتنا عن هذا الكلام؟ آه الوزارة مشغلوة بمهرجان توظيف كل من هب ودب . الامر تعدى مسالة متطوعي الازمة. يا وزير كلكم راع و كلكم مسؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤل عن رعيته.
شكرا
مقال مهم يستحق القراءة فعلا
شكرا...
تعجبني مقالاتك يا بو عبدالله... شكرا جزيلا....