وحيث إن نظرية الأعمال السياسية – كقيد على ولاية القضاء الدستوري – تجد في ميدان العلاقات والاتفاقيات الدولية معظم تطبيقاتها بأكثر مما يقع في المجال الداخلي؛ نظراً لارتباط ذلك الميدان بالاعتبارات السياسية وسيادة الدولة ومصالحها العليا، وإذ كان ما تقدم، وكانت الدعويان الماثلتان تنصبان على نص المادة (157) من قانون العقوبات، وهو قانون يتصل بتنظيم الجرائم وعقوباتها، ويرسم حدودها ويبين ضوابطها، وينظم حالات الإعفاء منها وشروطه، ما مؤداه أن هذا القانون ينظم بأحكامه أموراً وضع الدستور أسسها، ورسم حدودها وقيودها ووضع ضوابطها في المادتين (19) و(20) منه، وخول المحكمة الدستورية رقابتها، ومن ثم لا يكون النص المطعون بعدم دستوريته قد تناول بالتنظيم مسائل سياسية تدخل في عداد الأعمال السياسية، حتى يقال بعدم اختصاص المحكمة الدستورية بنظرها على ما ذهبت إليه الحكومة في دفعها، ويضحى بالتالي الدفع المبدى منها بعدم اختصاص المحكمة الدستورية ولائياً بنظر الدعويين غير قائم على أساس صحيح، متعين الرفض.
وحيث إن المدعين ينعون على النص المطعون فيه مخالفته الفقرة (أ) من المادة (19) من الدستور التي تنص على أن «الحرية الشخصية مكفولة وفقاً للقانون» استنادا إلى أن الجريمة الواردة بالنص المطعون فيه يكتنفها الغموض واللبس ويعد العقاب عليها افتئاتا على حرية الشخص التي كفلها له الدستور، كما ينعون عليه مخالفته المادة (20) من الدستور بفقرتيها (أ) و(ج)، وتنص الأولى على أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا عقاب ألا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها»، وتنص الثانية على أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع المراحل التحقيق والمحاكة وفقاً للقانون»، وأسس المدعون ذلك على عدم تعلق النص المطعون فيه بأعمال مادية أحدثتها إرادة مرتكبها، ما ينتفي معه وجود جريمة، فضلاً عن عدم تحديده تعريف الاتفاق الجنائي، ما يخل بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة العادلة، وينعى المدعيان في الدعوى المضمومة، إضافة للمناعي السابقة، مخالفة النص المطعون فيه نص المادة (31) من الدستور التي تنص على «ألا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون، أو بناء عليه. ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية»، وذلك تأسيساً على سلب النص المطعون فيه حرية الأفراد وحقهم في ممارسة حقوقهم وحرياتهم العامة، لاستناده في التجريم على مجرد أفكار كامنة في ضمائر الأفراد.
وحيث إن المحكمة ترى أن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط معينة، ويتمثل جوهر هذه السلطة التقديرية في المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة، لاختيار ما يقدر أنه أنسبها لمصلحة الجماعة وأكثرها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها في خصوص الموضوع الذي يتناوله بالتنظيم، ما مؤداه أن مشروعية النصوص القانونية التي يتخذها المشرع كوسيلة لتحقيق الأهداف المشار إليها، مناطها توافقها مع أحكام الدستور ومبادئه، ومن ثم يتعين على المشرع دائماً إجراء موازنة دقيقة بين مصالح المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من ناحية، وحريات وحقوق الأفراد التي كفلها لهم الدستور من ناحية أخرى.
وحيث إن الدستور قد بوأ مبادئ العدل والحرية والمساواة مكاناً عليّاً بين نصوصه وحرص على تصدرها المقومات الأساسية للمجتمع الواردة بالباب الثاني منه، فنص في المادة (4) على أن «العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة»، ثم أورد المواد (19) و(20) و(31) من الدستور لتفصل تلك المبادئ والمقومات الأساسية المتعلقة بكفالة الحرية الشخصية وصون الحقوق والحريات العامة، تأكيداً منه على عدم جواز أن ينال تنظيمها أو تحديدها من جوهرها، وعدم جواز التجريم والعقاب إلا بناء على قانون، والحرص على تقرير مبدأ افتراض البراءة، باعتباره يتفق مع الفطرة التي فطر الله – عز وجل – الناس عليها، ما مؤداه افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة. ومما يدل على سمو مبادئ الحرية والمساواة وعلو شأنها بين نصوص الدستور، أنّ قرنها الدستور بالمبادئ التي لا يجوز اقتراح تعديلها بأي حال من الأحوال مع المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ومع النظام الملكي ومبدأ الحكم الوراثي، ونظام المجلسين، فنص في الفقرة (ج) من المادة (120) على أنه «لا يجوز اقتراح تعديل المادة الثانية من هذا الدستور، كما لا يجوز اقتراح تعديل النظام الملكي ومبدأ الحكم الوراثي بأي حال من الأحوال، وكذلك نظام المجلسين ومبادئ الحرية والمساواة المقررة في هذا الدستور».
في الدعويين المقيدتين بجدول المحكمة الدستورية برقمي «د/3/04» و «د/4/04» لسنة (2) قضائية.
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الاثنين الموافق 26 يونيو/ حزيران سنة 2006م، 30 جمادى الأولى سنة 1427 هـ؛ لذلك يمكن القطع بأن القول بشمول وصف أعمال السيادة ما زاد على جزئية إعلان حالة السلامة الوطنية، قولاً فيه مجافاة لما استقر عليه الفقه والقضاء المقارن، ما يوجب العدول عنه وعن التحقيقات التي جرت في ظله والأحكام التي صدرت بموجبه، لما في الأخذ بذاك القول من نبذٍ لمبادئ العدل والمساواة والحريات، مكاناً قصياً.
سابعاً: بطلان المرسوم الملكي رقم (18) لسنة 2011، بإعلان حالة السلامة الوطنية:
بينت المذكرة التفسيرية للدستور الفرق بين إعلان حالة السلامة الوطنية وإعلان حالة الأحكام العرفية الواردتين في المادة (36) من الدستور، فنصت على أن إعلان حالة السلامة الوطنية تكون أقل حدة ومساساً بحقوق الأفراد وحرياتهم من إعلان حالة الأحكام العرفية، وقد رتبت المذكرة الدستورية التفسيرية على هذه التفرقة نتيجة مهمة، وهي أن تكون الإجراءات اللازمة لإعادة السيطرة على الوضع القائم عند إعلان حالة السلامة الوطنية، أقل حدة ومساساً بحقوق الأفراد وحرياتهم من تلك التي يتم اللجوء إليها في حالة إعلان الأحكام العرفية، بل إنه في حالة السلامة الوطنية، كما هو ثابت، من نص المذكرة التفسيرية للدستور، تكون الإجراءات الواردة في القوانين العادية كافية لمواجهة الظروف الاستثنائية التي أدت إلى إعلان حالة السلامة الوطنية؛ ولذلك فقد نصت المادة (123) من الدستور على أنه: (لا يجوز تعطيل أي حكم من أحكام هذا الدستور إلا أثناء إعلان الأحكام العرفية، وذلك في الحدود التي يبينها القانون، ولا يجوز بأي حال تعطيل انعقاد مجلس الشورى أو مجلس النواب أو المساس بحصانة أعضائه في تلك الأثناء، أو أثناء إعلان حالة السلامة الوطنية).
فنص المادة الدستورية السالفة صريح في أنه لا يجوز أن يُتخذ من إعلان حالة السلامة الوطنية طريقاً لتعطيل أحكام الدستور؛ لكون تلك الحالة أقل حدة ومساساً بحقوق الأفراد وحرياتهم العامة؛ ولذا لابد أن تكون الإجراءات التي ستطبق متوافقة مع القوانين النافذة بلا تعديل عليها. وتنحصر فقط في نقل وتحويل الإجراءات الأمنية إلى يد القائد العام لقوة الدفاع فقط بدلاً من وزير الداخلية.
ولما كان الثابت من المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011، أن ما تم إعلانه هي حالة السلامة الوطنية وليس حالة الاحكام العرفية، ولما كان من المقرر فقهاً وقضاء وقانوناً أن إعلان حالة السلامة الوطنية أقل حدة ومساساً بحقوق الأفراد وحرياتهم، من إعلان الأحكام العرفية كما أسلفنا؛ ولذلك فلا يجوز أن تتماثل الإجراءات التي تطبق بموجب حالة السلامة الوطنية مع الإجراءات التي تُطبق في إعلان الأحكام العرفية، واستناداً إلى ذلك فلا يجوز أن يُخوِل مرسوم إعلان حالة السلامة الوطنية من يباشر تنفيذ حالة السلامة الوطنية تطبيق أي من الإجراءات التي تُعتبر من إجراءات الأحكام العرفية المنظومة بموجب المرسوم بقانون رقم (27) لسنة 1981 بشأن الأحكام العرفية، كما لا يجوز أن تَعتبر هذه السلطة أن من صلاحيتها، لفرض الأمن، تطبيق هذه الإجراءات استناداً إلى ما مُنحت من سلطة مطلقةً لاتخاذ أي إجراء لفرض الأمن، فالإجراءات في إعلان حالة السلامة الوطنية يتعين أن تكون أقل حدة ومساساً بالحقوق والحريات. إلا أنه وبمقارنة ما تضمنه المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011، من أحكام بما ورد في المرسوم بقانون رقم (27) لسنة 1981 بشأن الأحكام العرفية نجدها متماثلة، بل إن ما ورد في المرسوم الملكي رقم (18) لسنة 2011، غير الدستوري لأكثر من سبب، قد جاء أشد حدة ومساساً بحقوق وحريات الافراد وتضييقاً لها، مع أن الدستور ومذكرته التفسيرية قد نصا على أن إعلان حالة السلامة الوطنية هي أقل حدة وأدنى مساساً بحقوق الأفراد وحرياتهم، إلا أن الثابت خلاف ذلك. ومن أمثلة النصوص التي تعتبر أشد مما ورد في المرسوم بقانون رقم (27) لسنة 1981 بشأن الأحكام العرفية، النص الخاص بإسقاط الجنسية، إذ جاء النص في المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011 عاماً، وفي قانون الأحكام العرفية خاصاً بمن تجنسوا. كما إن المرسوم بقانون رقم (27) لسنة 1981 بشأن الأحكام العرفية، قد تضمن نصاً خاصاً يعطي لمجلس الوزراء حق التضييق في دائرة الحقوق والحريات، ولا نجد لذلك النص أي صدى في المرسوم الملكي بإعلان حالة السلامة الوطنية؛ الأمر الذي يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ما ورد في المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011، قد جاء متجاوزاً ومخالفاً للدستور والقانون والموثيق والعهود الدولية الملزمة للبحرين بانضمامها إليه ولكونها عضواً في الأمم المتحدة؛ مما يُبطله؛ ذلك أنه من الواضح أن التفرقة بين نظام حالة السلامة الوطنية والأحكام العرفية التي أكدت المذكرة التفسيرية للدستور، وجوب مراعاتها، قد انعدمت على أرض الواقع، وأن الاختلاف في درجة شدة الإجراءات التي تُقرر أثناء حالة السلامة الوطنية وشدة مساسها بالحريات عما يطبق أثناء الأحكام العرفية والتي أكدت المذكرة التفسيرية للدستور بأنها هي من الضوابط الأساسية لتحديد المدى الذي تصل إليه الإجراءات التي تطبق أثناء حالة السلامة الوطنية معدومة، فلم يتبقَّ هناك أي إجراء أشد يمس الحقوق والحريات، يمكن أن يُقرر أثناء فرض الأحكام العرفية، بل إن الإجراءات المقررة في قانون الأحكام العرفية كان بعضها أخف منها مما نص عليه مرسوم إعلان حالة السلامة الوطنية؛ إذ إن الأول أجاز للسلطة سحب الجنسية عمن تجنسوا بها فقط، بينما الأخير أجاز إسقاط الجنسية عن أي، مواطن بمن في ذلك من هو بحريني بالتأسيس! وهو ما يعتبر إجراءً متشنجاً ومخالفاً لنصوص الدستور المعالجة للجنسية وينتهك بوضوح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ ما يبطل المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011، لاسيما إذا ما أضفنا المخالفات الكثيرة التي تضمنها هذا المرسوم لنصوص وأحكام الدستور، كما مر فيما سبق وما سنورده لاحقاً
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 3423 - الجمعة 20 يناير 2012م الموافق 26 صفر 1433هـ